أمضيت أغلب العمر تفزعني أواخر مصائر الناس ،وخواتيم أعمارهم ، متأملا بحزن مقيم ، وبشغف معرفي ..يحزن الروح ما كان وما انتهت إليه الأمور !! كثيرا ما فكرت أن خاتمة الإنسان تلخص صيرورته!! بالذات هؤلاء الذين تتبعت أقدارهم ..هؤلاء الذين كان لهم شأن !! رحم الله استاذي ومعلمي د "حسين فوزي" صاحب السندباد ، عندما تحسس بوعيه أحداث ذلك الزمان ، وذكر عن خاتمة السلطانة العظيمة "شجرة الدر" سلطانة مصر أواخر الدولة الأيوبية ، وأوائل الدولة المملوكية البحرية ، حيث قال عنها "ذات عقل وحزم ومعرفة بأحوال البلاد.. تدبر الحكم بجانب استاذها وزوجها "نجم الدين أيوب" حين هزموا جيوش فرسان الصليب في موقعة المنصورة بسبب من حسن تدبيرها ، ورجاحة عقلها وتم أسر مليكهم الصليبي لويس التاسع وسجنه في دار ابن لقمان" . تختلط علي الامور ، وأضيق بما أنا فيه ..أخترق القاهرة بزحمتها نافذا من المشرق الي المغرب ..هناك حيث قرافة "مقابر" المماليك الجاثمة تحت سفح المقطم ..نسمة هواء طرية قبل المغارب في هجير صيف مدينة تتجسد روحها مع الليل ، فيكون النيل ..والحدائق الساكنة تحت الضوء ..والبشر القليلون ..وذلك الغناء الذي ينشده المراكبي علي صفحة النهر عن البلاد البعيدة ، وأهله الغرباء. قلعة صلاح الدين خلفي ..وسور "مجري العيون" علي يساري وأنا أتجاوز الأزقة والحارات في دار البقاء المسكونة بالأحياء وعيالهم ..أتوجه ناحية شيختنا وست المقام السيدة "نفيسة" رضوان الله عليها حيث يقع بالقرب منه مدفن "سلطانة المسلمين..عصمة الدنيا والدين..ذات الحجاب الجميل ..والستر الجليل السلطانة شجرة الدر".. أقف أمام المقبرة ..تضربني التواريخ ، ومرور السنين والحساب .. والذاكرة مصفاة للحوادث وجريان الأيام .. المدفن تحفة معمارية رسم علي حيطانها بالموازييك شجر الحياة ، والضريح آية من آيات ذلك الزمان ..لا أعرف من أقامه حيث دفنت حين مقتلها في مقابر الصدقة .. ترقد السلطانة تحمل مأساتها على جبينها مسطرة بقدرها ومصيرها ، ويشيع في المكان ذكري الألم والنكران ..أتذكر ما كان من خبرها..هي زوجة "نجم الدين أيوب" آخر ملوك الدولة الأيوبية العظام ..كانت جارية من جواري الملك الصالح أعتقها وتزوجها ..اختلف المؤرخون في تحديد جنسها .. قالوا إنها تركية ، ومن قال أنها جركسية ، ورومانية تميزت بالذكاء ..حين غزت حملة "لويس" التاسع مصر عام 1249 ميلادية كان الملك الصالح مريضا .. وحين مات أخفت خبر موته وتولت هي أمر الجيش للأسباب التالية: • الخوف من حدوث البلبلة في الدولة واختلاف صفوف الجيش . • حيث لا ينصرف اهتمام المماليك وأمرائهم إلى تولي العرش . • هدفها هزيمة الصليبيين وقدتم ذلك وتوج بأسر مليكهم . استدعت ابن الملك الراحل "توران شاه" من قلعة كيفا من "ديار بكر" وولته العرش ..بعد فترة خالف وعوده ، وجامل مماليكه ، وأهانها مطالبا بأموال أبيه .. أرسلت إلي المماليك قائلة "اقتلوا توران شاه" فتم لها المراد ووليت علي حكم مصر ، وأخذت تفرق الوظائف السنية ، والاقطاعات .. لم يحدث أن حكم المسلمين امرأة إلا شجرة الدر .. اشتد العجب بأمير المؤمنين المستنصر العباسي في بغداد فأرسل رسالة لاذعة لحكام مصر "أن كان الرجال قد عدموا عندكم فاعلمونا حتي نسير إليكم رجالا". نصحوها بالزواج فاختارت "عز الدين أيبك" الذي بعد حين استبعدها هي الطموحة صاحبة المواقف التي لا تنسي ..علمت بأنه سوف يتزوج من بنت حاكم الموصل ، وانه يتهيأ لطردها من القلعة .. جنت وفقدت رشدها هي المرأة الحاكمة بأمرها حايلته واستدعته وأمرت غلمانها فقتلوه شر قتلة.. كانت غلطة الشاطر ..أراها في آخر أيامها حيث تتجسد الخواتيم والمصائر في افعال ، وقد جنت وذهب عقلها ، لا اعرف من أعطاها جواهرها التي أخذت تطحنها في هون من الذهب وتطلق ضحكات المجانين ..قبض عليها ابن أيبك وسجنها في الترسيم "السجن" وأمر الخدم بقتلها ضربا بالقباقيب حتى صعدت روحها إلي حيث وجه الله ..ثم حملت في قفة وهي عارية إلا من لباسها والقيت على سور القلعة تلغ فيها الكلاب ثلاثة أيام ، وحين حضر احد الحرافيش من أهل مصر فتش في تكة لباسها فوجد لؤلؤة ونافجة من المسك باقية من عز قديم ثم حملت ووريت مقابر الصدقة ..هي ذات الستر الجميل ..الست أم خليل ...هازمة الصليبيين وحاكمة المسلمين فسبحان من يدوم سلطانّه إلى آخر الدهر..