وزير البيئة يُطلق برنامجا تمويليا بقيمة مليار ريال    استقرار التضخم في السعودية عند 2.0% خلال فبراير    السعودية تحبط تهريب 7 ملايين قرص إمفيتامين في العراق    أمير منطقة جازان يعتمد نتائج الفائزين بجائزة جازان للتفوق والإبداع    حكاية كلمة: ثلاثون حكاية يومية طوال شهر رمضان المبارك . كلمة : سراج السمن    من الصحابة.. سهل بن حنيف رضي الله عنه    "لازوردي للمجوهرات" تعين عدنان الخلف رئيسًا تنفيذيًا وعضوًا منتدبًا    الهلال يخسر لاعبه في الديربي أمام النصر    النفط ينهي سلسلة خسائر مع "انتعاش الأسواق"    قوات الاحتلال تعتقل 11 أسيرا فلسطينيا مفرج عنه من الخليل    نائب أمير منطقة عسير يشارك أبناءه الأيتام الإفطار الرمضاني    دول مجلس التعاون تخطو خطوات كبيرة وقيّمة لمكافحة الإسلاموفوبيا    جامعة الأمير سلطان تحصل على براءة اختراع لحماية حقوق المحتوى الرقمي    لبنان يرفض محاولة إسرائيلية لمقايضة تحديد الحدود والانسحاب باتفاق تطبيع    الهلال الأحمر بالمدينة يباشر أكثر من 8000 بلاغًا منذ بداية رمضان    إقامة الافطار الرمضاني لهيئة الصحفيين بمكة من أعلى إطلالة في بقاع المعمورة    ولي العهد يبحث مستجدات الأحداث مع رئيسة وزراء إيطاليا    اللجان الأولمبية الإفريقية تعترف بالاتحاد الدولي للهجن    تعزيز البيئة الاستثمارية في مكة    مرونة اقتصادية ونمو "غير النفطي".. «ستاندرد آند بورز» ترفع تصنيف السعودية الائتماني إلى «A+»    التزام راسخ بتعزيز الأمن والاستقرار في العالم.. ولي العهد.. دبلوماسية فاعلة في حل الأزمات الدولية    انطلاق «بسطة خير» لتمكين الباعة الجائلين    "أبشر" تتيح تجديد رخصة القيادة إلكترونياً    بمشاركة حكومة دمشق لأول مرة.. المؤتمر الأوروبي لدعم سوريا.. ماذا يريد الطرفان؟    ترامب يحذر الحوثيين: حان وقتكم.. سنحاسبكم بالقوة المميتة    مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية يعقد اجتماعًا لمناقشة التقارير وإصدار التوصيات    «المداح.. أسطورة العهد» مسلسل جديد في الطريق    الأخدود يصعق الأهلي بهدف قاتل    "سعودية" تبتكر تقنية متطورة لتوثيق نبضات الأجنة    هل تتعرض أمريكا للهجرة العكسية    اختصاصي شؤون طلابية: احموا المدارس من العدوى    فتاوى الحوثيين تصدم اليمنيين    جبل أم القصص وبئر الصداقة!    مبابي يقود الريال لكسر عقدة فياريال    بدعم المملكة.. غينيا تحتفي بالفائزين في مسابقة القرآن    مسجد الجامع في ضباء ينضم للمرحلة الثانية لمشروع الأمير محمد بن سلمان ضباء - واس ضمّت المرحلة الثانية لمشروع الأمير محمد بن سلمان لتطوير المساجد التاريخية مسجد الجامع في مدينة ضباء بمنطقة تبوك، نظرًا لكونه أحد أقدم المساجد التاريخية ورمزًا تراثيًا في ا    مراكيز الأحياء.. أيقونة رمضانية تجذب أهالي جازان    كعب أخيل الأصالة والاستقلال الحضاري 1-2    انفجار العماليق الكبار    وغابت الابتسامة    سفيرة المملكة في فنلندا تدشن برنامج خادم الحرمين لتوزيع التمور    الأذان.. تنوعت الأصوات فيه وتوحدت المعاني    خلافة هشام بن عبدالملك    موعد مباراة الأهلي القادمة بعد الخسارة أمام الأخدود    جمعية "شفيعاً" تنظّم رحلة عمرة مجانية لذوي الإعاقة والمرضى وكبار السن والفئات الاجتماعية برفقة أهاليهم    الصحة تجدد التزامها بحماية حقوق المرضى    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالتخصصي يستأصل ورماً كبيراً بمحجر العين بعملية منظار متقدمة    القسوة ملامح ضعف متخف    ودية تعيد نجم الاتحاد للملاعب    الأخضر يستعد للتنين بالأسماء الواعدة    «سلمان للإغاثة» يوزّع 1.390 سلة غذائية في محافظتين بالصومال    تركي بن محمد بن فهد يطلق عددًا من المبادرات الإنسانية والتنموية    طويق جازان في مبادرة إفطار مرابط بالحد الجنوبي    وفاة الأميرة نورة بنت بندر آل سعود    إطلاق 16 كائنًا فطريًا في محميات العلا    نائب أمير منطقة مكة يستقبل رئيس المحكمة الجزائية بجدة    عَلَم التوحيد    فرع هيئة الصحفيين بجازان يحتفي بيوم العلم السعودي بالتعاون مع فندق جازان ان    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مصر والتسامح الديني ..إلى أين ؟
نشر في الرياض يوم 20 - 01 - 2011

يتحدد مستقبل التسامح الديني بطبيعة الخطاب الديني الذي يتم ضخه، ومن ثمَّ استهلاكه جماهيريا. لا مستقبل للتسامح في حال كون الخطاب الجماهيري، أو الخطاب الذي يقتطع شريحة عريضة من الجماهير المؤثرة في مجريات الواقع، متطرفا . والعكس صحيح. فالجماهير التي نشأت على خطاب متسامح ، واعتادت ممارسة التسامح في الواقع العملي ، يستحيل عليها أن تُستثار بمفردات المفاصلة والاحتراب والصراع . إن هذه الجماهير ، حتى وإن جنح ( بعض أفرادها ) إلى التطرف ، إلا أن تطرفها يبقى مجرد تطرف معزول وهامشي وغير مؤثر ؛ لأن التيار العام يحكم المستقبل بأكثر مما تحكمه نزوات الأفراد الطافحة على سطح الحياة .
هل نستطيع أن نقول: إن مستقبل التسامح أصبح وراءنا، وأن علينا أن نعود أربعة أو خمسة عقود إلى الوراء لنحصل على نصيب معقول من التسامح؟، وحينئذ نتساءل : هل نحن نتراجع إلى الوراء مع كل يوم يمر علينا، بينما يتقدم غيرنا في كل ثانية إلى الأمام، حيث التسامح والتعايش والسلام ؟
في مصر ، وإلى عهد قريب ، كان الخطاب الرائج جماهيريا خطاباً متسامحا مع كل الأطياف . صحيح أنه قد وقع شيء من صراع ، شيء من صراع التنوع والاختلاف والمصالح على المستوى الشعبي، لكنها كانت أحداثا عابرة ، لم تتأسس على رُؤية ، ولم تُؤسس لرُؤية ! . وبهذا ، لم تجد لها أي صدى على مستوى الرؤية العلمية الرائجة بين جماهير المتدينين المتعلمين .
في الماضي القريب، لم يكن الصراع والاحتراب الشعبي بين المتنوع والمختلف في مصر خطابا مقصودا ، بل كان مجرد نزوات غضب عابرة ، يُدينها الجميع بخطاب عام رائج في أوساط الجميع : مسلمين ومسيحيين . أي أنها كانت وقائع تقع بحكم الاجتماع البشري ، كما تقع الجرائم ، وكانت تُدان كما تُدان الجرائم . ولهذا لم يكن يجرؤ أحد من رجال الدين على منح هذا الصراع صبغة شرعية ، بل كان محل استغراب واستهجان واحتقار الجميع .
كثير من الكنائس في مصر تقع على بعد خطوات من أحد مساجدها. الكنيسة التي وقع فيها التفجير قبل عشرين يوما ، لا تبعد إلا بضعة أمتار عن مسجد كبير. المسجد والكنيسة يتقابلان في شارع واحد . وفي هذا رمزية واضحة ، سواء أكانت مقصودة أم غير مقصودة ؛ إذ هي دليل واقعي ملموس على تسامح واضح تمدد في الواقع منذ مئات السنين. لا يستطيع أي متطرف تغيير هذا الواقع، لا يستطيع نقل المساجد من أماكنها ليبعدها عن الكنائس ، كما لا يستطيع نقل الكنائس ليبعدها عن المساجد . الإخاء هنا قدري ؛ ولكنه لم يهبط من السماء ، بل هو قدري من حيث هو اختيار أجيال منقوعة الجذور بماء التسامح الذي لا ينضب ولو نضب ماء النيل .
الإنسان / المواطن ( = الإنسان العادي / البسيط / غير المتأثر بالإيديولوجيا الطائفية ) في مصر لا يشعر بهذا الاختلاف الذي توحي به الإعلانات الطائفية الدينية . يعمل المسيحي عند المسلم ، كما يعمل المسلم عند المسيحي ، ويتعامل المسلم بيعا وشراء وشراكة ..إلخ مع المسيحي ، كما يتعامل المسيحي بيعا وشراء وشراكة ..إلخ مع المسلم . لا فرق تراه ظاهرا ، بل لا تستطيع في كثير من الأحيان كشف الهوية الدينية للمصري الذي أمامك إلا بعد أن ترى صورة صغيرة للمسيح عليه الصلاة والسلام معلقة هنا أو هناك، أو ترى آية الكرسي منقوشة أو منسوجة على زاوية من زوايا الدار. الجميع يتحدث معك وإليك من خلال كونه مصريا وأنت زائر أو مقيم ، وليس من أية زاوية تقابلية أخرى .
في مصر هناك تمازج كبير فريد بين الأفراد من أتباع الديانتين : المسيحية والإسلام . لكنه ، وكما قلت من قبل ، يظهر في الجيل الذي تجاوز مرحلة الشباب أكثر ما يظهر في جيل الشباب . بعد الانفجار بيومين ، سمعت بعض الشباب من المسلمين يتحاورون فيما جرى ، وسمعت أحدهم يعلق بحماس قائلا : " هذا أحسن ؛ فهم لا يرتدعون إلا بالتخويف " ، وعلق آخر : " هذا جزاؤهم ، هم الذين يستفزون المسلمين دائما " ، وقال آخر لما رأى الاستنفار الأمني لحراسة الكنائس : " لماذا كل هذا ، لو كان تم تفجير الأزهر ما فعلوا كل هذا " ، وكلمات أخرى من هذا النوع الذي ينبئ عن أزمة هؤلاء المخدوعين باسم الدين ، والغائبين عن الواقع الذي يقفون على بركانه دون اكتراث .
لكن ، وبينما هؤلاء الشباب يتكلمون بمثل هذا الكلام ، كان إمام المسجد في الحي ، والذي جاوز الستين من عمره ، قد كتب بخط يده يافطة ، وعلقها بجوار المصعد في العمارة التي نسكنها ، وفيها ما نصه " بمناسبة عيد الميلاد المجيد ، يتقدم سكان العمارة المسلمون بتهنئة إخوانهم المسيحيين ، ويتمنون أن يكون هذا العام الجديد عام خير وسلام على الجميع : مسلمين ومسيحيين " وكتب اسمه بتوقيعه تحت هذا النص . وعندما سألته لماذا هو بالذات الذي بادر بالكتابة ، ولماذا لم تكن إدارة العمارة هي التي تقوم بذلك ، قال : هذا يجب عليَّ أولا بصفتي إمام الجامع ، ولا بد أن تكون المبادرة مني بالذات، وليتقدم الآخرون بما يستطيعون . ثم أشار إلى خطر خطاب التطرف الذي يلغي الإخاء الإسلامي المسيحي في مصر ، وأنه اليوم أصبح تجارة رابحة لأولئك المتاجرين بالدين من المسيحيين ومن المسلمين .
بجانب هذا الشيخ المتسامح ، سمعت أحد كبار السن المسيحيين يشكو إلى قريبته أمراضه من جهة ، ويشكو المشهد البشع الذي طال أبناء دينه ، وينقل إليها تفاصيل الحادث الأليم . لكنه قال بعد كل ما نقله إليها من وقائع ومشاهد مؤلمة : " إنه مسكين [ يقصد الذي قام بالتفجير ] يتصور أنه سيدخل الجنة بهذا العمل " ، ولم أسمع منه ما يوحي بأي حقد أو حنق على أي طرف . وبصراحة ، لقد تفاجأت بهذا الوصف ( = مسكين ) لما يحمله هذا الوصف من ملامح شفقة على المجرم الذي قام بالتفجير ، وكأنه يراه ضحية من بين الضحايا !.
مقابل هذا التسامح الصادق الذي تتحطم على أعتابه أسس إيديولوجيا التقليدية، وتتهاوى أمامه مقولات التقليديين ، تدخل ( كثيرٌ من ) دور النشر والتوزيع ، التي يُديرها رجال من هذا الجيل الشاب ، والتي تُروّج للكتيبات وأشرطة الكاسيت الدينية ، في محاولة الترويج للتقليدية الأثرية في أشد صورها تطرفا وتزمتا وانغلاقا. فبينما ترى أشرطة كبار المقرئين في زاوية من زوايا المحل ، وهي تكاد أن تتوارى عن الأنظار ، تجد أشرطة قادة التطرف وغلاة الغلاة تملأ فضاء المحل الرحب . دروس ومحاضرات لغلاة الخوارج من أتباع التقليدية الأثرية ، تنضح بالغلو والتشدد وترويج الأحوطيات الحرويرية ، هي الواجهة العلمية للمحل ، بل إن بعض هؤلاء ( = الغلاة ) لا زالوا في بلدانهم رهن الاعتقال على خلفية ترويج أفكار متطرفة / تكفيرية / خوارجية ، وإثارة شغب و..إلخ بينما تجد محاضراتهم تعلن عن نفسها كبديل إيديولوجي في بلد الطهطاوي ومحمد عبده وطه حسين والعقاد وشلتوت وزكي نجيب محمود وعبدالرحمن بدوي والمسيري وغالي شكري و حسن حنفي و زكريا إبراهيم وعبد الجواد يسين ..إلخ .
بتأمل كل هذا ، هل نستطيع أن نقول : إن مستقبل التسامح أصبح وراءنا، وأن علينا أن نعود أربعة أو خمسة عقود إلى الوراء لنحصل على نصيب معقول من التسامح ؟ ، وحينئذ نتساءل : هل نحن على مستوى الخطاب وعلى مستوى الواقع ، نتراجع إلى الوراء مع كل يوم يمر علينا ، بينما يتقدم غيرنا في كل ثانية إلى الأمام ، حيث التسامح والتعايش والسلام ؟ ، هل الجيل الجديد الذي هو عالم الغد جيل مخترق في رؤاه ، وهل احترق بنيران مقولات التقليدية الملتهبة بالعداء والمكتنة بطاقة الفناء ، أم لا تزال هناك بقايا أمل ؟ ، ويبقى السؤال الأهم ، والأعمق ، والأشد تعقيدا: لماذا تنتشر إيديولوجيا المتطرفين بهذه السرعة وهذا الاتساع ، بينما إيديولوجيا التنوير ( إن جاز تسميتها إيديولوجيا ) لا تزال سجينة الكلمات ، بل لا تزال تبحث لنفسها عن فضاء حر للتفكير ، وعن منبر محايد للتعبير ؟.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.