مصر، ورغم العراقة في كل شيء ، هي بلد اللاّقبيلة واللاعشيرة، بل هي بلد ذوبان القبائل والعشائر في هوية نهرها العظيم، حيث تُنسى الأصول التي هي مجرد أوهام أو خيالات أو أضغاث أحلام، لصالح المكان / الوطن الذي هو الحقيقة الملموسة في كل آن. إنها مصر، ليست ( وطن ) التسامح الديني والمذهبي فحسب، وإنما هي ( وطن ) التسامح العرقي والإثني والثقافي أيضا. مصر هي الوطن الذي استطاع تمصير الاختلاف في بوتقة هوية الوطن. المصري هو مصري أولا؛ لا لأنه يقدم هوية الجغرافيا على بقية الهويات المتداخلة، ولكن ؛ لأنه يعتنق تلك الهويات ويمتزج بها من حيث هو مصري، فيطبعها بطابعه الخاص . ولهذا ، لاحظ كثيرون - ومنذ القِدَم - أن من السهولة بمكان أن يستوطن أيُّ أحدٍ مصرَ، ولكن ليس من السهولة أن يستوطن المصري أي بلد آخر غير مصر، إلا تحت إلجاء الضرورات القصوى، تلك الضرورات التي لا تبعده عن هويته ( المصرية ) بقدر ما تؤكد له ولغيره حقيقة الانتماء . عاش المصريون جميعا، ومنذ فجر التاريخ ، كمصريين . وكان التسامح مع كل أنواع الاختلاف الداخلي، وتقبل الآخر الطارئ ، واحتضان الثقافات المتنوعة، هو ما ميّز مصر على الرغم من وجود بعض المتعصبين بين الحين والآخر من هؤلاء وهؤلاء . مصر هي بلد الآن / الراهن ، بقدر ما هي بلد التاريخ . التاريخ في مصر هو هوية تتمدد وتتفتح وتحتضن، بينما هو لدى كثيرين هوية انغلاق وانكفاء وطرد . مصر ، ورغم العراقة في كل شيء ، هي بلد اللاّقبيلة واللاعشيرة ، بل هي بلد ذوبان القبائل والعشائر في هوية نهرها العظيم ، حيث تُنسى الأصول التي هي مجرد أوهام أو خيالات أو أضغاث أحلام ، لصالح المكان / الوطن الذي هو الحقيقة الملموسة في كل آن . إذن ، التصعب في مصر ، وبكل أنواعه ، هو حالة طارئة ، هو استثناء ؛ حتى وإن نبت في أرض مصر ، بل حتى وإن ازدهر وأثمر ، فبذوره ليست مصرية بحال . إلى عهد قريب ، لم تكن الأقليات في مصر ترى نفسها في خانة : الأقليات ، بل كانت ترى نفسها مصرية بلا إضافات . زمن الثورة المصرية الأولى ( = ثورة 1919م) كان زمن الهوية المصرية الخالصة . ولهذا كان دور الأقباط فيها كبيرا ، بل كان دورهم أكبر مما توحي به نسبتهم إلى مجمل السكان . أما الثورة العسكرية (= 1953م) فقد كانت ثورة التعصب ، والقهر ، والاتجار بالهويات ، وتجيير الشعارات ؛ دون وعي بما سيجره هذا التوظيف الأعمى على وطن هويته الأولى هي : المكان . إنك عندما تُعلن هوية ما ( كالهوية العربية مثلا ) ، فلا بد أن يبحث الآخرون ( ممن لا ينتمون لنفس الهوية ) عن هوياتهم ، ولا بد أن يتعصبوا لها إزاء كل ما تُوحي به شعارات الطرف الآخر من تهديد بالمحو والإلغاء . وأي هوية شمولية يُراد تعميمها كهوية عامة تلغي - ولو ضمنيا - المتنوع ، فإنها في حقيقتها حرب معلنة على بقية الهويات . عندما يتأدلج ( وطن ما ) بإيديولوجيا ضيقة ، ويُشدد عليها ، وتمفصل أجزاء الشراكة الوطنية عليها ، فلا بُد أن يرتاب أولئك الذين هم خارج نطاق تلك الإيديولوجيا بوطنهم ؛ مهما كانت درجة الحب والولاء . الإخوان المسلمون ، وفي الأربعينيات من القرن العشرين خاصة ، كانوا قد مزجوا تفاصيل الديني بتفاصيل السياسي ، بل وجعلوا الوطن مجرد إيديولوجيا عابرة للقارات ، بينما جعلوا الوطن الحقيقي مجرد منصة انطلاق . وكان من المتوقع -وهو ما حدث بالفعل - أن يفعل الآخرون ( = الأقباط هنا ) الشيء نفسه ، ولكن بصورة أخرى، وبشعارات غير أممية ، أو غير صريحة في أمميتها ، بل بشعارات مُعاكسة مشدودة إلى ذات المكان / الجغرافيا . لكن ، ومهما قيل عن الإخوان وتعصبهم ، يبقى أنهم ( وخاصة في مرحلتهم الأولى / مرحلة البنا ، قبل أن يتأثروا بالتقليدية المتطرفة ) كانوا أكثر تسامحا من معظم تيارات الأسلمة الرائجة في مصر الآن . فالزعيم القبطي الكبير : مكرم عبيد باشا ، هو أحد أصدقاء الشيخ : حسن البنا ، بل هو الوحيد الذي تجرأ وزار بيت البنا بعد اغتياله ، وقدّم فيه واجب العزاء . ولقد كتب ، وهو الرمز القبطي المسيحي ، عن حسن البنا بعد مقتله ما نصه : " ولئن ذكرت فكيف لا أذكر كم تزاورنا وتآزرنا إبان حياته ، ولئن شهدت فكيف لا أشهد بفضله بعد مماته ، وما هي - وأيم الحق - إلا شهادة صدق أُشْهد عليها ربي؛ إذ ينطق بها لساني من وحي قلبي . بل هي شهادة رجل يجمع بينه وبين الفقيد العزيز الإيمان بوحدة ربه، وبوحدة شعبه، والتوحيد فى جميع الأديان المنزَّلة لا يكفي فيه أن نوحد الله بل يجب أن نتوحد في الله كما أن وحدة الوطن لا يكفي فيها وحدة أرجائه، بل يجب أن تتوافر لها قبل كل شيء وحدة أبنائه! " . هذا ما يقوله زعيم قبطي كان يحفظ القرآن ! ، يقوله عن مؤسس حركة الإخوان الأصولية ، قبل أن يتم تطعيمها بمقولات التقليدية الرافضة لمثل هذا الإخاء بين شيخ حركي مسلم وزعيم حركي مسيحي . التقليدي الأثري المتطرف يعدّ هذا النوع من الإخاء أحد نواقض الإيمان ، إنه يعده كفرا بواحا مُخرجا من الملة بلا مراء . ولهذا ، فحسن البنا كافر في نظره ؛ لأنه أخلَّ بعقيدة الولاء والبراء التي لا يفهم أسرارها غير التقليديين !. إن حال مصر قبل عقود ، ليس هو حالها الآن . التقليدية في مصر تستشري ببطء ، ولكن بقوة قادرة على كتابة تاريخ مصر من جديد . هناك تحولات لا تخطئها العين في ميادين مصر العامة شوارعها الكبرى وأزقتها الضيقة . التحولات عامة وشاملة ، وهي ليست تحولات من حالة : اللاتدين إلى حالة : التدين ، فهذا أمر إيجابي ومطلوب ، وليس ما يجري تحولا في درجة التدين ، فهذا أيضا أمر إيجابي إلى الحد المعقول ، ولكن ، هناك تحولات كبرى تجري في ( نوعية التدين ) ، بل وفي ( هوية التدين ) ذاتها . فمثلا ، الحجاب الذي يجري النزاع عليه في مصر الآن ، والذي بدأ في الظهور حتى على شواطئ الإسكندرية الراقية ، ليس هو الحجاب الذي كان يطالب به المتدينون في مصر قبل أربعة أو خمسة عقود ، بل ما بدأ في الظهور هو حجاب خاص ، من نوع خاص ، بتفاصيل خاصة ، وبلون خاص ، يُحيل إلى مكان خاص !. في تقديري أنه بعد عام 1973م بدأ اجتياح التقليدية لمصر عبر قنوات متعددة، وبواسطة مغريات تخطف الأبصار . لقد أثّرت التقليدية الاتباعية عميقا في الجيل الذي نشأ وتربى بعد هذا التاريخ . هذا ما لمسته بنفسي في مدينة الإسكندرية ، إذ كنت ، وعلى مدى سبعين يوما قضيتها فيها قبل دوي الانفجار الإرهابي الذي حدث قبل ثلاثة عشر يوما، أستشعر بمرارة هذا الأثر المقلق للتقليدية في مشاعر وعقول شباب مدينة جميلة واعدة بالازدهار . رغم ضخامة الجريمة التي مثّلها تفجير كنيسة القديسين ليلة رأس السنة ، إلا أن ما يجول في العقول هو الأهم ، وهو الأخطر ، إذ هو الذي يحدد ملامح المستقبل لوطن مرتهن بخيارات أبنائه الذين هم في طور الشباب . ما يقلقني على نحو أخص ، أن الشباب في الإسكندرية متعصبون أكثر من الكهول ، ومن الشيوخ أيضا . يتحدث الكبار عن إخوانهم المسيحيين بلسان المحبة، ويتفاعلون معهم حياتيا بشكل طبيعي ، بشكل لا أثر فيه للنفور ، فضلا عن العداء أو الاستعداء . هؤلاء الكبار الذين تكوّن وعيهم قبل استشراء مقولات التقليدية وأدبياتها ذات النفس التكفيري ، يتصرفون مع إخوانهم المسيحيين على طبيعتهم كبشر ، بعيدا عن أي انتماء تفاصلي عدائي . بينما تطفح على ألسن الشباب ، حتى من غير المتدينين ، مقولات التقليدية الرائجة في عالم الفضاء اليوم، ويمضغون بجهل أدبياتها التي تسمم عقولهم ومشاعرهم بروح العداء، ويفصحون عن ذهنية الصراع بكل وقاحة وغباء . قبل ثلاثة أيام من تفجير الكنيسة في الإسكندرية، وفي ذات الحي الذي تقع فيه الكنيسة (= حي سيدي بشر ) كنت في أحد المقاهي أجلس مع شاب لم يتجاوز الرابعة والعشرين من عمره ، وكانت طاولتنا في الشارع، بحيث نرى تيار العابرين كما هي عادة إخواننا المصريين. مرّ بعض الشباب وهم في حالة ابتهاج واضح، نظر إليّ هذا الشاب وقال: هؤلاء مسيحيون والعياذ بالله. توقعت أنه يظنني متعصبا وأنه يتقرب إليّ بمثل هذا القول، قلت له : عفوا ، ولماذا والعياذ بالله هذه ؟! ، قال بكل جزم وتأكيد : إنهم يكرهوننا، إنهم أعداء لنا . قلت وقد أخذت الأمر بجد : هل آذوك بشيء ، هل سبق وأن اعتدوا عليك ؟ قال : لا . قلت : وكيف عرفت أنهم يكرهونك، وكيف تصفهم بالأعداء وهم جيرانك في الحي ، وإخوانك في الوطن ؟ . استغرب من كلامي ، وقال كأنما يقذفني بصاعقة : الله يقول : ولن ترضى عنك اليهود والنصارى حتى تتبع دينهم ( هكذا قرأ الآية بالغلط في موقعين منها !) ، ثم قال متحديا: يا أستاذ، ربنا الذي قال هذا يعرفهم ، هل أنت ستكون أعلم من ربنا؟ . طبعا ، لا أحد أعلم من ربنا ، ولهذا سكت ، فأمام مثل هذا الجهل ، هل تمتلك غير السكوت ؟! . السؤال المهم هنا : من أين تسرب هذا الفهم التقليدي الخالص إلى عقل مثل هذا الشاب ؟. هذا الشاب ليس متدينا ، بل هو لا يصلي ! ، وثقافته الدينية ثقافة سماع من هنا ومن هناك . ومع هذا تشبّع إلى حد التطرف بمثل هذه الأدبيات التي تؤسس للكراهية والعداء ، والتي لا توجد بهذه الصورة إلا عند أتباع المدرسة التقليدية تُفخخ عقول أتباعها البؤساء . ما يجب أخذه بعين الاعتبار، هو أن هذا الموقف ليس مجرد موقف عابر ، لشاب عابر ، بل هو فرد يعبر عن روح عامة ، يعبر عن وجهة نظر في الدين والتدين بدأت في تلوين هوية مصر ، موقف يكشف عن أعرض مرض خطير ، مرض لا علاج له إلا بالاستئصال ( الاستئصال الفكري ، وليس البدني / المادي الذي هو نوع من الإرهاب ) على مدى زمني طويل .