الشعر عاطفة روحها الصور والجرس الموسيقي والمعاني، وهي - العاطفة - تسري في الأبيات سريان الكهرباء في الأسلاك.. وكما توصل الكهرباء الطاقة والنور، يوصل الشعراء المبدعون عواطفهم ومشاعرهم، ويشحنون القارئ بتجاربهم، ويجعلونه يتذوق الجمال الفني الذي لا يقل روعة عن الجمال البشري، فليس الجمال في وجه امرأة جميلة فقط، ولكن الجمال يتجلى في أشياء كثيرة: رقة البحيرة وروعة البحر، انتشاء الأرض بالعشب والزهر والمطر، ترنم الطيور ذات الأصوات البديعة، وفي القصيدة الأصيلة النابعة من أعماق الروح وأغوار العاطفة. والشاعر زاده الخيال.. يسافر به.. ومعه.. وعليه، والصور هي تجسد هذا الخيال.. كما ان الجرس الموسيقي المتناغم مع حرارة العاطفة يوصل الشعور.. حين يقول عنترة بن شداد: اثني علي بما علمت فإنني سمح مخالطتي إذا لم أظلم فإذا ظلمت فإن ظلمي باسل مر مذاقته كطعم العلقم هلا سألت الخيل يا ابنة مالك إن كنت جاهلة بما لم تعلم يخبرك من شهد الوقيعة أنني أغشى الوغى وأعف عند المغنم فأرى مغانم لو أشاء حويتها فيصدني عنها الحيا وتكرمي ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها قيل الفوارس ويك عنتر أقدم يدعون عنتر والرماح كأنها اشطان بئر في لبان الأدهم مازلت أرميهم بثغرة نحره ولبانه حتى تسربل بالدم فازور من وقع القنا بلبانه وشكى إلى بعبرة وتحمحم لو كان يدري ما المحاورة اشتكى ولكان لو علم الكلام مكلمي لما رأيت القوم أقبل جمعهم يتذامرون كررت غير مذمم» فإنه قد جسد عواطفه وصورها واستعان بموسيقى الشعر ليضمن لها السيرورة والبقاء ويجعلها لذيذة على السمع، سهلة التداول والحفظ. ، فكأن لذة صوته ودبيبها ** سنة تمشى في مفاصل نعس (ابن الرومي) وهو قد جسد (المعنوي) وشخصه بالصورة المادية، فالظلم صفة معنوية ولكنه شبه الظلم الذي قد يقع عليه بالعلقم، وجعله مر المذاق على من تسول له نفسه ان ينال عنترة بظلم أو ضيم.. وهو سمح ما لم يظلم حلو المخالطة والعشرة.. ثم صور كريم أخلاقه بأنه يقتحم الحرب والخطر ويرمي بنفسه في المهالك فإذا جاء وقت قسم الغنائم عف عنها. ويبلغ به التجسيد وحسن التصوير مداه حين تكلم عن صديقه وحصانه، فقد جعل الحصان يسكو بعبرة وتحمحم، لهول المعركة والصدام، كما تقمص الشاعر روح الحصان يريد ان يحاوره ويكلمه لو استطاع، وهي محاورة شكوى وكلام عتاب، وكل هذا يدل على هول المعركة، وعنف القتال، حتى لقد اشتكى الفرس وما اشتكى الفارس بل ظل يرميهم بنحر الحصان حتى تسربل بالدم، ويضربهم بالسيف والرمح بأثبت جنان، وحين أقبل جمع الأعداء كثيفاً مخيفاً رافعاً السيوف والرماح لم يتراجع ولم يخف، بل كر عليهم محموداً غير مذموم. ويقول شاعرنا الشعبي الكبير محمد بن لعبون: يا ذا الحمام اللي سجع بلحون وش بك على عيني تبكيها ذكرتني عصر مضى وفنون قبلك دروب الغي ناسيها اهلي يلوموني ولا يدرون والنار تحرق رجل واطيها لا تطري الفرقى على المحزون ما اداني الفرقى وطاريها اربع بناجر في يد المزيون توه فحى العيد شاريها عمره ثمان مع عشر مضمون مشي الحمام الراعبي فيها ستة بناجر واربعه يزهون وان اقبلت فالنور غاشيها يا من يباصرني انا مفتون روحي ترى فيها الذي فيها ومن الولع والحب انا مجنون يا ناس انا وش حيلتي فيها؟! فهو يخاطب الحمام الساجع ويعاتبه، وهذا تجسيد للمحيط الذي يعيش فيه والذي أهاج لواعيه، فالحمام كل اليف مع أليفه يغني له ويناجيه مما ذكر الشاعر بمحبوبه البعيد، وأبكى عيونه على حاله! ثمه يتألم من لوم أهله له على هذا الغرام والسقام، ويتنهد قائلاً: إنهم لا يدرون! أي لا يدرون بالألم الذي أنا فيه، ويجسد هذا بأنه لا يحس بالنار غير واطيها، ويعود فيصور حبيبه المزيون وهو في ميعة شبابه (عمرها 18 سنة) وجعل صباها الصداح يمشي فيها مشي الحمام الراعبي المشهور بالرشاقة والجمال.. وينظر لأساور الذهب في عضد المحبوبة تتمختر بها ضحى العيد قريبة من عينيه بعيدة المنال فيحس بالجنون. وهو يراوح بين (النداء) والشكوى والاستفهام والتسجيم والتضخيم (.. روحي ترى فيها الذي فيها) أي شيء لا يمكن وصفه.. ويجعل شاعر شعبي آخر المحيط الأطلسي (بكبره) يشتعل أشواقاً وحرارة: يا حمام من على السدره لعا هيض الاشواق وانا بمجلسي جر صوته ثم جريته معا واشتعل منا المحيط الأطلسي! للوليف اللي لمحبوبه رعى ما يبي ذكرى المحبه تفلسي ان ذكرته قلت للي يسمعا: «يا زمان الوصل في الأندلس» ويجسد البحتري حديث محبوبته العذب، ويصور ثغرها الجميل وابتسامتها الرائعة: ولما التقينا واللوى موعد لنا تعجب رائي الدر حسناً ولا قطه فمن لؤلؤ تجنيه عند ابتسامها ومن لؤلؤ عند الحديث تساقطه