إن استعادة سيرة شخصيات عامة، في كتاب أو عمل فني في السينما أو التلفزيون، مدفوعة بتلك الحوافز الداخلية المشروطة باستلهام النماذج المكرسة أو إعادة تجذير النماذج الضائعة. تتحول هذه الاستعادة لتلك الشخصية السياسية أو الثقافية أو الاجتماعية، وفي الغالب حين تكون مكرسة، إلى حالة توثين متعمدة لطقسنة الذكرى والتذكر. ولعل الحالة الأشهر، ليس في القيمة والمستوى أو المحتوى والموضوعية، استعادة السيرة درامياً بين التلفزيون والسينما والإذاعة لكل من جمال عبدالناصر وطه حسين وبمبة كشر وأم كلثوم وعبدالحليم حافظ وحسن البنا. ويمكن في حالات نادرة أن تستعاد أو يعاد كتابة سيرة شخصية عامة لم تتكرس، فتكون عملية اكتشاف جديدة، وحدث ذلك في مسلسل "أسمهان 2008". يقدم للمكتبة العربية هذا العام الكاتب جهاد فاضل، بعدالة غير معهودة، كتابين عن "أم كلثوم: نغم مصر الجميل" و"محمد عبد الوهاب: بين التقليد والتجديد". هكذا دفعة واحدة. لم يكن أحدهما كتاباً عن موضوعاته القدحية المعتادة عن لبنانية سعيد عقل أو حداثة أدونيس أو فحولة نزار قباني. على أي حال، لا يتناول في كتابه عن محمد عبدالوهاب الحالة الغنائية وما يمثلها في اتجاه الغناء العربي ومدارسه واتجاهاته وألوانه وأنواعه وأنماطه، بل يعاين الشخصية الثقافية وعلاقاتها بشعراء زمانها وكيف تحولت حسب الخبرة والتجربة لهذه الشخصية بما تفصح عنه من آراء ونتائج في حواراتها. كتب فصول الكتاب على صيغ مقالية مطولة يمتلكها مواضيع ظنّية في الغالب. فمن عناوين الفصول: هل كان صناعة شوقية؟، جفنه علم الغزل/العلاقة مع الأخطل الصغير، لقاء قمة مع أم كلثوم، بدأ مطرباً وانتهى فيلسوفاً, متعة الراوي، المغنى لم يكن حياة الروح وسواها. ومما يثير الاستغراب هو خروجه عن إجابة السؤال عنوان هذا الفصل عما إذا كان عبدالوهاب صنيعة شوقي الثقافية بل محاولته الذهاب بعيداً، وربما كان الحوم ولا من ورود، في مناقشة علاقة الشاعر أحمد شوقي بالمغني والملحن محمد عبدالوهاب، وغيرة أبناء شوقي من هذا التفضيل والمكانة حين خصص غرفة خاصة له في بيته. فيطرح حزمة تساؤلات على شاكلة (ولاحظوا استخدام أم في سؤال يبدأ ب هل): فهل كان وراء هذه العلاقة الحارة الحميمة، الصوت فقط، أم الصوت والصورة في آن؟ وهل كان شوقي القابض على زمام الشعر في عصره يلهث وراء مغن، فقط ليغني له شعره كما لو أنه شاعر من الدرجة العاشرة من شعراء زماننا الحالي الذين يلهثون وراء المغنين ليغنوا لهم قصائد من نظمهم، أم أنه اهتم بهذا المغني لسبب آخر هو أنه نزل من نفسه منزلة عالية؟ (ص:16). وتوقف عند سؤال سعدالدين وهبة في أحد الحوارات التلفزيونية التي حولت إلى كتاب "النهر الخالد" (دار سعاد الصباح، 1992) حول الإعجاب بين الرجلين إلى ما يتعدى الشعر والموسيقى والطبقة والعمر. حيث يستعيد سؤال وهبة: "أعجب بك أولاً كمغن؟" باعتباره سؤالاً غير بريء حين يحاول فاضل الإجابة عن طريق الطقس الصوفي في أن يرى في العلاقة بين الاثنين فيها علاقة المريد بشيخه وما يمكن أن تتحول إليه من "عشق روحي أو صوفي غامر" ولكن يعمم فاضل أن (الخبثاء) غير سعدالدين وهبة الذين غمزوا من هذه العلاقة تجنبوا الخوض فيها "على أساس أن العشق لا منطق له وهو بحر بلا ساحل. بحر لا يعرفه إلا من خاض غماره أو غرق فيه". ولكن لا ينتهي فاضل إلى إجابة رغم أن تصنيف الازدواج الجنسي ممكن في حالة عبدالوهاب كما هو ممكن في حالة شوقي نفسه. غير أن العدة البحثية والأدوات التحليلية لفاضل كان يمكن أن تسعفه أكثر عندما دلف إلى رواق علاقة عبدالوهاب بالأخطل الصغير (بشارة الخوري) الشاعر الضيف على تجربة عبدالوهاب الغنائية السينمائية حيث قدم له مجموعة من القصائد، وواحدة بين العامية والفصحى "يا ورد مين يشتريك 1940"، أثرى بها الأناقة الغنائية الوهابية بنماذج لا تنسى: "الهوى والشباب 1931، جفنه علم الغزل1933، الصبا والجمال 1940". سنرى لاحقاً.. !!Article.footers.caption!!