قالت له : أُريدُ مُجرَّدَ جناحيْن، أَوْ يَكُفّ روحي عنْ تَوْقِهِ للطَيَرانِ. فاستغرب قائلًا: منذ متى تطلب النوارس أجنحة؟ أو تتمنى أن يكف توقها للطيران؟. كان يعرف انها ليست نورسا حتى وأن انضمت منذ زمن بعيد لقبيلة النوارس المتناثرة على شاطىء الخليج لاهية بالماء والهواء وهاربة من صخب الاسئلة وإلحاحها المتواتر يوما بعد يوم. أما توقها القديم للطيران ، فلم يكن بسبب انضمامها لتلك القبيلة المائية اللاهية، بل العكس تماما هو الصحيح. هو توق استكشفته في ذاتها ذات يوم وهي تلهو بطائرتها الورقية ذات الذيل الريشي الساحر في صحرائها الشاسعة. وعندما تشابكت خيوط تلك الطائرة في غفلة من حرصها، وعجزت عن التحليق تماما حاولت كثيرا أن تصلح من شأن ذلك التشابك كثيرا من دون أي نجاح، ولم يخطر لها ان تستبدل بالخيوط المتشابكة خيوطا جديدة. كانت طائرتها مصنوعة يدويا، وقد استخدمت في صناعتها كل مهاراتها ومساعدة أشقائها. وعندما انتهت من صناعتها لونتها بكل الالوان التي تحتويها علبة الالوان الخشبية، ثم الصقت في ذيلها ريشة طاووس اخذتها من بين صفحات مصحف جدتها العتيق. لا تدري من اين أتت جدتها بتلك الريشة الساحرة الالوان، ولا تدري لماذا تحتفظ بها بين صفحات مصحفها وهي لا تعرف القراءة وبالتالي لا يهمها رقم الصفحة التي وقفت عندها في آخر مرة فتحت فيها المصحف . كانت فقط تعرف ان جدتها تضع الريشة في تلك الصفحة الاخيرة لتعود اليها كلما عاودت فتح المصحف بعد كل صلاة. فاكتسبت تلك الريشة هالة من السحر أضافتها لسحر الالوان المذهلة. ربما لهذا كانت تلك الريشة اول ما فكرت به عندما ارادت تزيين طائرتها الورقية بريشة جميلة لتكون بمثابة الذيل. لم تكن تعرف قصة عباس بن فرناس مع الطيران بعد، ولكنها أدركت مالم يدركها ذلك الفرناس الحالم ، فأهتمت بذيل الطائرة كثيرا، وأودعته بعض توقها للطيران وهي تلمس بأصابعها الصغيرة على الريشة المزهوة بأناقة ألوانها. سكنها ذلك التوق المشتبك مع الوان الريشة وطاقتها السحرية وأناقتها الخارقة، وكانت الآيات القرآنية القليلة التي تحفظها جدتها وتكررها في كل مرة تفتح فيها المصحف مهما اختلفت الصفحات زادها الروحي الذي يجدد ذلك التوق بطاقة جديدة كلما لاح في الافق ما يكدر الالوان أو يجابه الورق أو يشل حركة الخيوط. كانت تطير نحو السماوات العلى وهي مغمضة العينين كلما افلتت طائرتها نحو الفضاء في صحرائها الشاسعة والمزهوة باليباس وحده. وكانت تمتم بآيات جدتها القليلة كلما داهم الخوف من مجهول السماء البعيدة قلبها الصغير.. كبر قلبها الصغير، وازدحم بالهموم.. ولم يعد مجهول السماء وحده ما يخيفه ، لكن توقها للطيران تعاظم كثيرا.. كثيرا.