"ولا بُد للمُحب إذا حُرم الوصل من القنوع بما يجد"، بهذا التأكيد يستهل ابن حزم الظاهري أحد أجمل وأطرف أبواب مؤلَّفه الفريد والذائع الصيت (طوق الحمامة)، والذي ضمَّنه جوانب مُتعددة من جوانب تجربته وفلسفته الخاصة حول موضوع الحُب، وفي هذا الباب يلتفت ابن حزم (ت 456ه) رحمه الله لمسألة دقيقة في موضوع العشق وهي مسألة حدود قناعة العاشق بمن يُحب، أمّا الأمور التي ذكرها ويُمكن أن يجد فيها العاشق المحروم عوضاً عن الوصل فمنها ما قد يبدو معقولاً ومقبولاً للجميع، ومنها ما قد يبدو لغير العاشقين ضرباً من السفاهة والجنون .! ومن أبرز تلك الأمور المعقولة التي قد تُعوض العاشق عن الوصل الدائم، وربما وجد فيها على أسوأ الأحوال "مُتعللاً للنفس، وشغلاً للرجا، وتجديداً للمنى، وبعضَ الراحة": الزيارة وهي –كما يصفها ابن حزم- "أمل من الآمال"، وكذلك النظرة العجلى والخاطفة إلى المحبوب، وفيها يقول: فإن تنأَ عني بالوصال فإنني سأرضى بلحظ العين إن لم يكن وصلُ فحسبي أن ألقاك في اليوم مرةً وما كُنت أرضى ضعف ذا منك لي قبلُ وللشاعر المبدع بدر محمد السبيعي أبيات يُمكننا القول بأنها تحمل قدراً كبيراً من اليأس من الوصل، فقد وصلت به القناعة حداً جعله لا يتمنى من صاحبته إلا نظرة مشروطة بشروط يضعها هو كدليل على شدة وطأة الهجر عليه ورغبته في رؤيتها: يا لطيف الروح حبك نابتٍ بين الضلوع مثل غرسٍ نابتٍ في وادي ما باح ماه وأنت ناوي بالقطيعة مانشوفك يالقطوع ناويٍ تذبح خفوقي وآعنا قلبي عناه ما ترجينا الطماعه والطماعه للطموع شوفتك عندي تراها مكسب القلب ودواه والله إني يا لطيف الروح رجالٍ قنوع ما طلبتك غير نظرة من بعيد وبالعباه ! والشاعر الكبير عبدالله بن عون يُرضيه ويُقنعه من المحبوب أيضاً نظرة قصيرة حتى لو حصلت تلك النظرة في موقف حزين كموقف الوداع: أظن يضرب للغضي درب الأسناع وأشوف زوله عقب صد وتمانيع وفي غير شوف العين مالي بطمّاع إلا ان حصل لو هو سلامٍ وتوديع وبما أن "قليل الحبيب لا يُقال له قليل" كما يذكر ابن أبي حجلة (ت 776ه) رحمه الله في (ديوان الصبابة) حين تحدث عن هذه المسألة بإيجاز تحت عنوان (الرضا من المحبوب بأيسر مطلوب)، نجد بأن كثيراً من الشعراء يعبرون عن رضاهم وقناعتهم التامة بتبادل حديث قصير وسريع مع المحبوب، يقول الشاعر الكبير محمد خلف الخس: في هرجتك لو هي قليله قنوعي لو كان هرجك يسلب العقل مني يوحيك قلبي قبل توحي سموعي حتى العروق الجاريه يشهدني حبك تخلخل مع مفالج ضلوعي حتى بنوم الليل ما غبت عني ويُعبر الشاعر المبدع سعود الدهيمي في الأبيات التالية أيضاً عن ذات الرغبة وبمنتهى الرضا والقناعة: وش بقول ووش بخلّي من الوصف الجميل كل شيٍ فيك مملوح غير الابتعاد مير عوّد واسق الاشواق من ماء السلسبيل كل شيٍ لاطواه البطا والبعد باد والله اني منك يرضيني الشي القليل هرجتك لاسجّوا الناس لجروحي ضماد ويُضيف ابن حزم إلى ما أشرنا إليه سالفاً من: الزيارة والحديث أموراً أخرى قد تبدو معقولة ويُمكن أن يجد فيها العاشق المحروم بديلاً مؤقتاً عن الوصل، من ذلك أن "يُسر الإنسان ويرضى ببعض آلات محبوبته"، ويذكر أيضاً بعض الأمور التي قد تُعلل العاشق وتُسليه مع أنها قد تُعد في نظر البعض شكلاً من أشكال (جنون الحب)، منها على سبيل المثال: أن يرضى المُحب"بمزار الطيف، وتسليم الخيال"، أو"يقنع بالنظر إلى الجدران ورؤية الحيطان التي تحتوي على من يُحب"!، أو أن يقنع "بأن السماء تُظله هو ومحبوبه والأرض تُقلهما"، أو أن يقول العاشق لمحبوبه: "عدني واكذب"، فالوعد الكاذب باللقاء -كما يصوره ابن حزم- بمثابة البرق الخُلب الذي يُحيي بعض الأمل لكنه لا يسقي ولا يُغيث أرضا: إن كان وصلُك ليس فيه مطمع والقرب ممنوع فعِدني وأكذبِ فعسى التعلُل بالتقائِك ممسِكٌ لحياةِ قلب بالصدود مُعذبِ فقد يُسلِّي المجدبين إذا رأوا في الأفق يلمع ضوء برق خُلّبِ وللشاعر المبدع عامر بن عمار أيضاً أبيات رائعة يُعلن فيها اقترابه من حد الجنون بسبب العشق والهجر، ويتمنى من صاحبته أن تجود عليه بلقاء واحد أو بوعد كاذب يحفظ عليه عقله: يا بنت نوم العباد اللي تنامينه اليوم للموق سبع أيام ما مرّه يا بنت هذا الوقور اللي تشوفينه ياما هذابك وجاب العيد من مره اما اكذبي واوهميه إنك تحبينه أو اقبلي مثل هالانسان مضطره إنسان قصده شريف ونيته زينه قنوع ترضيه قولت: شفتها مره يرضيك يمشي يسولف تومي ايدينه ما عاد باقي معه في الجمجمه ذره؟ ففي جميع الشواهد السابقة نلحظ بأن القناعة لدى الجميع قناعة لا تصدر عن ارتواء واكتفاء ذاتي، بقدر ما هي قناعة اضطرارية فرضها المحبوب أو فرضتها الظروف التي أرغمت العاشق على أن يرى قليل الحبيب كثيرا.