هي مشاعر صادقة فياضة نابعة من القلب تعطي المثل الحي عن الوفاء والتكريم والمحبة.. وأين هي؟ سنجدها في هذه الأبيات التي مدح بها الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما زوجته الرباب بنت أمرى القيس بن عدي وابنتهما سكينة بقوله: لعمرك إنني لأحب داراً تكون بها سكينة والرباب أحبهما وأبذل كل مالي ولبس لعاتب عندي عتاب فلست لهم وإن غابوا مضيعاً حياتي أو يغيبني التراب بعد قراءة هذه الأبيات المعبرة والكثير من أمثالها في موضوعها ومعناها قلت في نفسي ليت بعض الذين لا زالوا يفرضون ساديتهم على المرأة وينتفخون وينتفشون أمامها كالطاووس ويحاولون بكل ما يملكون من قدرة وتسلط على تهميشها والتحجير على إرادتها وهضم حقوقها ويعتبرون ذلك كله مقياس رجولة وفحولة ومصدر فخر واعتزاز وكمال لهم.. ليتهم يتجردون ولو للحظة واحدة من أنانيتهم وعنترياتهم وثقتهم المفرطة بأنفسهم ويعودون إلى المنبع العذب الزلال الذي لا تشوبه شائبة تغطرس وصلف وتعال.. نعم يعودون إلى عصر الإسلام النضر الزاهر - في القرن الأول - عندما كانت المرأة تجد التقدير والتكريم وتحتل المكانة المرموقة اللائقة في حياة السلف الصالح رضوان الله عليهم اقتداء بالسنة المطهرة الغراء التي أعطت المرأة كامل حقوقها الدينية والدنيوية وباركت جهودها وجهادها في ساحة العلم والعمل وكانت في عصرهم بحق قولاً وعملاً - شقائق الرجال - شاركن في الفتوحات والغزوات في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وبعده. وقمن برواية أكثر من أربعة آلاف حديث نبوي شريف. لقد كان الأوائل من الصحابة الأخيار والتابعين والسلف الصالح عموماً يرون في المرأة السعادة الحقة وفي كنفها الملاذ الآمن، لا يحتقرونها ولا يبخسون حقاً من حقوقها بل كانوا يعتزون ويطالبون بأن تحتل المكانة اللائقة بها مستنيرين ومسترشدين بتوجيه الهادي البشير الأمين وخاتم الأنباء والمرسلين الذي ربط خيرية الرجل - وكررها - بخيريته لأهله فقال وهو الذي لا ينطق عن الهوى - خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي - كما رفع شأن المرأة في مجال العلم والعمل والفتوى فقال عن واحدة منهن كقدوة ومثال - خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء.. يقصد بها أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.. وعن العلم قال «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة». وعن عمل الرجال في بيته، فقد سئلت عائشة: عما كان يعمله الرسول القدوة عليه الصلاة والسلام في بيته، قالت «كان في مهنة أهله حتى يخرج إلى الصلاة» أي أنه صلى الله عليه وسلم كان يعاونهن ويعمل معهن. وكثيراً ما يساعد أزواجه في أعمال المنزل، فكان يحلب الشاة بيده الكريمة ويرقع ملابسه بنفسه ويصلح نعله وكان يقوم - في بعض الأحيان - بتنظيف داره كما كان يعنى بناقته وكان - إلى جانب ذلك كله - يقدر كل شيء حق قدره ولم تسمع منه كلمة ذم - مرة واحدة - لرأي أو عمل... وأين ذلك من عهدنا الحاضر حيث يوجد من عتب على صديقه عندما أعلن بالصحيفة عن وفاة والدته فذكرها بالاسم - وكأن ذكر اسم المرأة نكرة أو عيباً في نظره القاصر.. وهناك آخر انتقد أحد أقاربه عندما ذكر اسم البنت في بطاقة دعوة الزواج، وكان الصحابة رضوان الله عليهم ومن تبعهم يثنون ويمدحون أمهاتهم وزوجاتهم وبناتهم ويشيدون بفضائلهن في كل مناسب ويذكرونهن بأسمائهن الصريحة ويقفون بجانبهن داخل المنزل وخارجه.. كل هذا وغيره يعطي المثال الحي الصادق عن الوفاء والتكريم والتقدير.. وفي الحديث الشريف «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم» إلى آخر الحديث.. ولكن في عصرنا هذا - وخاصة في بعض المجتمعات - يصاب الإنسان العاقل المنصف الحصيف بالألم والحزن وهو يعرج على ردهات بعض المحاكم - ولو بطريق الصدقة - ويرى بأم عينيه صور التسلط والكبت والحرمان الناتج من تبعات الطلاق القسري من القلة الشاذة تجاه المرأة المغلوبة على أمرها، حيث الرجل وحده يزمجر بأعلى صوته هناك والمرأة خانعة مستسلمة لا تنبس ببنت شفة نتيجة الكبت والظلم الطاغي.. وكأنه حرام عليها أن ترفع صوتها.. وفي المجتمع وخاصة في بعض المجالس أو في المناسبات عندما يأتي ذكر حقوق المرأة أو المطالبة بتكريم المرأة أو إنصاف المرأة تجد البعض من الفئة المتحجرة أو المتسلطة - أسيرة التقاليد الجائرة المجحفة - يفز كالملدوغ أو المرعوب مستنكراً أو مستكثراً ومستغرباً أن للمرأة حقوقاً يجب أن تنالها ومكانة يجب أن تحتلها ويبدأ بدلاً من ذلك من ذكر عيوبها ونواقصها وكأنه وحده كامل الأوصاف المنزه من العيوب والأخطاء، ناسياً أو متناسياً أو جاهلاً قول الله سبحانه وتعالى في حق المرأة وكما جاء في محكم التنزيل: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) وقوله تعالى: (وعاشروهن بالمعروف) وقوله عليه الصلاة والسلام: «النساء شقائق الرجال» والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.. والمرأة بصفة عامة هي الأم والبنت والزوجة والأخت والإنسانة.. والقرآن والسنة قد فصلت البر بها والعطف عليها وتكريمها واحترام مشاعرها وحقوقها.. ولكن مع هذه الشرذمة المتخلفة العاقة والحاقدة لا مجال لبسط العبر لأنه لا مكان للاعتبار أو كما جاء في الآية الكريمة (أم على قلوب أقفالها). أما تهميش المرأة وسلب حقوقها والاستهانة بمشاعرها وتحطيم رغباتها والوقوف في طريقها فهي أمور يعجز القلم عن الإحاطة بها مهما كان الشرح والأفاضة، ولكن لنا أن نأتي بإلمامة بسيطة ورؤوس أقلام من الواقع المعاش في سجل حياتها وهمومها.. فهي كثيراً ما تجبر وتقسر على الزواج ممن لا ترغب ولا تحب وإذا اعترضت أو امتنعت فمصيرها العنوسة والبقاء في المنزل بقية عمرها تحت مظلة من لا يحترم مشاعرها وإنسانيتها ويسومها ذل الهوان. وهناك من يزوجها ويتركها تحت رحمة زوج أرعن يقلب حياتها جحيماً لا يطاق أو يطلقها أو يهجرها مع أطفالها بدون رعاية أو نفقة أو يكون من فئة الأزواج الذين يكثرون السفر أو يألفون السهر طوال الليل خارج المنزل.. أما شرذمة من الأزواج فهم يحرصون على الزواج من عاملة أو معلمة وقد أضمر الشر لسلب حقوقها وابتزازها مادياً مستغلاً ضعفها وحياءها وأنها لا تستطيع رفع صوتها في مجتمع مع الأسف لا زالت بعض العادات والتقاليد المجحفة فيه تقوي شوكة الرجل ضد المرأة. ويحضرنا في هذا المقام قول أو حكمة أو مثل فحواه ومختصره يقول: «لو خليت لخربت» والقصد من ذلك وجود فئة صالحة حكيمة تقوِّم الأخطاء وترفع الصوت عالياً لإحقاق الحق وهذه الفئة ولله الحمد موجودة في كل زمان ومكان كصمام أمان.. ولقد أسعدني الحظ والتوفيق ذات يوم وأنا استمع إلى شريط حافل لأحد علمائنا الأخيار يعدد حقوق المرأة وواجباتها ويندد بكل صراحة بما تلاقيه من ضعاف النفوس والعقول من عقوق وجحود ونكران.. فقد أجاد وأفاد بحكمة وروية واتزان وإنصاف.. بخلاف أو على النقيض من حديث إذاعي سمتعه قبل مدة في إحدى الإذاعات المنسية والمحدودة التأثير سمعت أحدهم يزمجر وبصوت أجش يعدد مثالب المرأة ويطنب في ذكر عجزها وقصورها متناسياً جهودها وجهادها في الحياة أماً وزوجة ولم يتطرق بسطر واحد على الأقل إلى الواجبات والحقوق التي فرضها الإسلام لها مع البر بها والعطف عليها كما جاء ذلك في القرآن الكريم والسنة المظهرة، وأين ذلك وأمثاله عن حديث الرسول الذي لا ينطق عن الهوى في قوله: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي» فتباً للحمق والتسرع عندما يسلبان الإنسان رشده ويبعدانه عن جادة الحق والصواب. ولا يقف الأمر عند هذا الحد من النيل من حقوق المرأة، بل نرى ونسمع من يحاول التدخل في خصوصيات المرأة في العلم والعمل والمناداة بتهميشها والتحجير على إرادتها ورغباتها وهناك نغمات نشاز ودعوات عرجاء تريد أن تسلب المرأة ليس - بعض - بل كل مكتسباتها وحقوقها التي منها مصدر زرقها وسد حاجاتها وتأمين مستقبلها المادي على الأقل. لقد سمعت من أحدهم وقرأت للآخر وهما يسوقان مبررات عقيمة سقيمة تصب في تحقير وتهميش عمل المرأة في خدمة مجتمعها ووطنها وبنات جنسها.. أحدهم يقول أنظروا إلى الطبيبات في مجتمعنا فقد أصبحن عوانس بسبب حذر الشباب من الاقتران بهن، والآخر يقول: أنظروا إلى المعلمات فقد أخذتهن الوظيفة عن التفكير في مستقبلهن.. وغير ذلك من التبريرات الساذجة.. ويلتقيان في تفكيرهما الدوني المتهالك إلى أن التعليم قد جنى عليهن وأن الجهل للمرأة في نظرهم أفضل من العلم وأن الخمول والكسل والتقوقع أحسن من العمل والانطلاق لطلب الرزق ويظهر لي أن هؤلاء وأمثالهم قد عزلوا أنفسهم عن المجتمع والحياة وأصبحوا أسرى أوهامهم وتخرصاتهم المريضة العمياء ولم يعلموا أن الطبيبات والممرضات والمواطنات في المجتمع الذي يعيشون على هامشة لا تصل إلى عشرة في المائة 10٪ بالنسبة للوافدات المتعاقدات في هذا التخصص الضروري الهام اللاتي يشكلن 90٪ منه. ونخلص في ذلك إلى حقيقة مؤلمة مفزعة ومخجلة وهي لا تعدو أن تكون حلقة في مسلسل أو مخطط تسلطي متوارث أساسه وغايته كما قلنا من قبل هو تهميش المرأة والنيل منها وتحطيم آمالها وطموحاتها في مستقبل الحياة الفاضلة الكريمة والعودة بها إلى الوراء إلى سنين التخلف والجهل والانطواء وهي بالتالي حملة محبوكة الأطراف وتجد لها مع الأسف من يناصرها ويدافع عنها من أشباه الأميين والمتحجرين ومن لف لفهم من أسرى التقاليد المتوارثة البالية والعادات الجاهلية التي يستميتون للاحتفاظ بها والدفاع عنها حيث يريدون كما أشرنا سلفاً العودة بالمرأة إلى سنين الضعف والهوان التي كانت تعتبر المرأة من سقط المتاع وإنسانة من الدرجة الثالثة أي بعد الرجال والأطفال وتجدهم يبررون صدق أوهامهم بحجج متهالكة نابعة من مخيلتهم المهترئة. ولقد استخلصت من برنامجهم وأهدافهم البعيدة من واقع ما أقرأ عنهم وأسمع عن مخططهم وأرى بنفسي من تصرفاتهم أنهم يتوقون ويتطلعون في مخططهم ضد المرأة إلى تحقيق التالي: 1 - تهميش المرأة في المجتمع وبمعنى أوضح أن تعيش على هامش الحياة. 2 - هضم حقوقها بمعني أن تبقى طيلة حياتها مسلوبة الحقوق بما يتعلق بإرادتها وإنسانيتها. 3 - تحقير مشاعرها أو بصورة أخرى تحطيم مشاعرها كمخلوق سوي له ما لغيره من الحقوق والواجبات والمشاعر والطموحات. 4 - الاستهانة بكرامتها إلى درجة الحكم عليها بأنها قاصرة وغير قادرة على أن ترفع صوتها أو تفاخر بإنسانيتها على الأقل. 5 - تحطيم أمالها إلى مستوى أن تظل دائماً رهينة واقعها وأن تبقى متقوقعة ومحاصرة دائماً دون التطلع إلى المستقبل أو إلى الأمام أو تبصر طريقها حسب إرادتها. 6 - وضع العراقيل الشائكة أمامها ومن حولها والسهر على حراسة هذه العراقيل وتطويرها إلى درجة الإنغلاق والإغلاق. 7 - نزع الثقة منها تماماً والتشكيك بجميع تصرفاتها.. ومعاملتها في محيط هذه الدائرة الضيقة مهما وصلت إليه من مستوى العلم والفهم ومهما تقدم بها العمر وكسبت من تجارب الحياة. وكأني في ختام هذا الحديث الطويل أجد من ينبري بالقول متسائلاً هل للمرأة نفسها دور فيما وصلت إليه حالها وأمورها في بعض المجتمعات ونحن في إشراقة القرن الواحد والعشرين عصر العلم والنور والوعي، فأقول ربما ولكن نظراً لما عانته المرأة وجابهته من حصار حولها طيلة السنين المتراكمة الماضية أصبحت محطمة الإرادة مثخنة الجراح نفسياً بل وتردد رغماً عنها ما قاله الشاعر المتنبي من قبل: من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام ويتساءل البعض هل من نخبة واعية تناصرها وتطالب بانصافها في عصر العدل والانصاف واليقظة الإسلامية المباركة ومبدأ حقوق الإنسان. «والإنسانة أيضاً» فأقول مجيباً نعم هناك من يريد مناصرتها والوقوف بجانبها لنيل حقوقها كاملة غير منقوصة ولا مهمشة ولا مبتورة ولكن هؤلاء في مثل هذه المجتمعات ينقسمون إلى قسمين.. أحدهما يساندها بالرأي ومعايشة همومها وربما تؤرقه هذه الهموم أكثر منها وهؤلاء لا يملكون أكثر من الرأي.. وموقفهم هذا هو ما عناه الشاعر في قوله: لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم تسعد الحال وهناك قسم أو فئة تعي معاناتها حقاً وتملك زمام إنصافها وتحقيق الكثير من مطالبها ولكن بسبب أو بآخر يعوزها الإقدام وأحياناً يهيمن على خطواتها التردد والاحجام وكأني بالشاعر الحكيم يخاطبهم ويعنيهم ويستحثهم في قوله: إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن فساد الرأي أن تترددا هذا وللحديث والموضوع إضافات وهوامش سنتطرق إليها بالتفصيل والإفاضة في حديث آخر.