تعقيباً على مقال الأستاذ عبدالله الكثيري المنشور في صفحة (عزيزتي الجزيرة) يوم الخميس الماضي، الذي تطرَّق فيه إلى بعض البشر الذين يحاربون عمل المرأة في الأسواق، ومنه بيع الملابس الداخلية للمرأة في الأسواق، وما يقومون به من تهميش للمرأة وهضم حقوقها والتضييق عليها في أعمال البيع بشكل عام، أقول: بودي أن أبدأ تعقيبي بهذه الأبيات التي مدح بها الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنهما - زوجته الرباب بنت امرئ القيس بن عدي وابنتهما سكينة بقوله: لعمرك إنني لأحب داراً تكون بها سكينة والرباب أحبهما وأبذل كل مالي وليس لعاتب عندي عتاب فلست لهم وإن غابوا مضيعاً حياتي أو يغيبني التراب بعد قراءة هذه الأبيات المعبِّرة والكثير من أمثالها في موضوعها ومعناها قُلْت في نفسي: ليت بعض الذين ما زالوا يفرضون ساديتهم على المرأة، وينتفخون وينتفشون أمامها كالطاووس، ويحاولون بكل ما يملكون من قدرة وتسلُّط تهميشها والتحجير على إرادتها وهضم حقوقها، ويعتبرون ذلك كله مقياس رجولة وفحولة ومصدر فَخْر واعتزاز وكمال لهم.. ليتهم يتجردون ولو للحظة واحدة من أنانيتهم وعنترياتهم وثقتهم المفرطة بأنفسهم، ويعودون إلى المنبع الأصيل، المنبع العذب الزلال، الذي لا تشوبه شائبة تغطرس وصلف وتعالٍ.. نعم يعودون إلى عصر الإسلام النضر الزاهر في القرن الأول، عندما كانت المرأة تجد التقدير والتكريم، وتحتل المكانة المرموقة اللائقة في حياة السلف الصالح - رضوان الله عليهم - اقتداء بالسُّنة المطهرة الغراء التي أعطت المرأة كامل حقوقها الدينية والدنيوية، وباركت جهودها وجهادها في ساحة العِلْم والعمل، وكانت في عصرهم - بحق - قولاً وعملاً شقائق الرجال؛ شاركن في الفتوحات والغزوات في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبعده، وقمن برواية أكثر من أربعة آلاف حديث نبوي شريف.. لقد كان الأوائل من الصحابة الأخيار والتابعين والسلف الصالح عموماً يرون في المرأة السعادة الحقة، وفي كنفها الملاذ الآمن، لا يحتقرونها، ولا يبخسون حقاً من حقوقها، بل كانوا يعتزون ويطالبون بأن تحتل المكانة اللائقة بها، مستنيرين ومسترشدين بتوجيه الهادي البشير الأمين وخاتم الأنبياء والمرسلين الذي ربط خيرية الرجل - وكررها - بخيريته لأهله، فقال - وهو الذي لا ينطق عن الهوى- «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»، كما رفع شأن المرأة في مجال العلم والفتوى، فقال عن واحدة منهن بوصفها قدوة ومثالاً «خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء» يقصد بها أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -. وعن العلم قال: «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة»، وعن عمل الرجل في بيته فقد سُئلت السيدة عائشة عما كان يعمله الرسول القدوة عليه الصلاة والسلام في بيته فقالت «كان في مهنة أهله حتى يخرج إلى الصلاة»، أي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يعاونهن ويعمل معهن، وكثيراً ما يساعد أزواجه في أعمال المنزل؛ فكان يحلب الشاة بيده الكريمة، ويرقع ملابسه بنفسه، ويُصلح نعله، وكان يقوم - في بعض الأحيان - بتنظيف داره، كما كان يعتني بناقته، وكان - إلى جانب ذلك كله - يُقدِّر كل شيء حق قدره، ولم تسمع عنه كلمة ذم مرة واحدة لرأي أو عمل.. وأين ذلك من عهدنا الحاضر؛ حيث يوجد مَنْ عتب على صديقه عندما أعلن بالصحيفة عن وفاة والدته فذكرها بالاسم، وكأن ذكر اسم المرأة نكرة أو عيباً في نظره القاصر!!.. وهناك آخر انتقد أحد أقاربه عندما ذكر اسم البنت في بطاقة دعوة الزواج! وكان الصحابة - رضوان الله عليهم - ومَنْ تبعهم يثنون ويمدحون أمهاتهم وزوجاتهم وبناتهم، ويشيدون بفضائلهن في كل مناسبة، ويذكرونهن بأسمائهن الصريحة، ويقفون بجانبهن داخل المنزل وخارجه.. كل هذا وغيره يعطي المثل الحي الصادق عن الوفاء والتكريم والتقدير.. وفي الحديث الشريف «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم..» إلى آخر الحديث، ولكن في عصرنا هذا - خاصة في بعض المجتمعات - يُصاب الإنسان العاقل المنصف الحصيف بالألم والحزن وهو يعرج على ردهات بعض المحاكم - ولو بطريق المصادفة - ويرى بأم عينيه صور التسلُّط والكبت والحرمان الناتجة من تبعات الطلاق القسري من القلة الشاذة تجاه المرأة المغلوبة على أمرها؛ حيث الرجل وحده يزمجر بأعلى صوته هناك، والمرأة خانعة مستسلمة لا تنبس ببنت شفه نتيجة البت والظلم الطاغي!.. وكأنه حرام عليها أن ترفع صوتها.. وفي المجتمع - خاصة في بعض المجالس أو في المناسبات - عندما يأتي ذكر حقوق المرأة أو المطالبة بتكريم المرأة أو إنصاف المرأة تجد البعض من الفئة المتحجرة أو المتسلطة، أسيرة التقاليد الجائرة المجحفة، يفز كالملدوغ أو المرعوب مستنكراً أو مستكثراً ومستغرباً أن للمرأة حقوقاً يجب أن تنالها ومكانة يجب أن تحتلها، ويبدأ بدلاً من ذكر من عيوبها ونواقصها، وكأنه وحده كامل الأوصاف المنزه من العيوب والأخطاء، ناسياً أو متناسياً أو جاهلاً قول الله سبحانه وتعالى في حق المرأة وكما جاء في محكم التنزيل: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، وقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، وقوله عليه الصلاة والسلام «النساء شقائق الرجال»، والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.. والمرأة بصفة عامة هي الأم والبنت والزوجة والأخت والإنسانة.. والقرآن والسنة قد فصلا البر بها والعطف عليها وتكريمها واحترام مشاعرها وحقوقها.. ولكن مع هذه الشرذمة المتخلفة العاقة والحاقدة لا مجال لبسط العِبَر؛ لأنه لا مكان للاعتبار، أو كما جاء في الآية الكريمة: {أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا}. أما تهميش المرأة وسلب حقوقها والاستهانة بمشاعرها وتحطيم رغباتها والوقوف في طريقها فهي أمور يعجز القلم عن الإحاطة بها مهما كان الشرح والإفاضة، ولكن لنا أن نأتي بإلمامة بسيطة ورؤوس أقلام من الواقع المعاش في سِجل حياتها وهمومها.. فهي كثيراً ما تُجبر وتُقسر على الزواج ممن لا ترغب ولا تحب، وإذا اعترضت أو امتنعت فمصيرها العنوسة والبقاء في المنزل بقية عمرها تحت مظلة من لا يحترم مشاعرها وإنسانيتها ويسومها ذل الهوان.. وهناك من يزوجها ويتركها تحت رحمة زوج أرعن يقلب حياتها جحيماً لا يُطاق أو يطلقها أو يهجرها مع أطفالها بدون رعاية أو نفقة أو يكون من فئة الأزواج الذين يكثرون السفر أو يألفون السهر طوال الليل خارج المنزل.. وهناك شرذمة من الأزواج يحرصون على الزواج من عاملة أو معلمة، وقد أضمر الشر لسلب حقوقها وابتزازها مادياً مستغلاً ضعفها وحياتها، وأنها لا تستطيع رفع صوتها في مجتمع - مع الأسف - ما زالت بعض العادات والتقاليد المجحفة فيه تُقوّي شوكة الرجل ضد المرأة.. ويحضرني في هذا المقام قول أو حِكْمة أو مَثَل فحواه ومختصره يقول «لو خليت لخربت»، والقصد من ذلك وجود فئة صالحة حكيمة تُقوِّم الأخطاء وترفع الصوت عالياً لإحقاق الحق، وهذه الفئة - ولله الحمد - موجودة في كل زمان ومكان كصمام أمان.. ولقد أسعدني الحظ والتوفيق ذات يوم وأنا أستمع إلى شريط حافل لأحد علمائنا الأخيار يُعدِّد حقوق المرأة وواجباتها، ويندد بكل صراحة بما تلاقيه من ضعاف النفوس والعقول من عقوق وجحود ونكران.. فقد أجاد وأفاض بحكمة وروية واتزان وإنصاف.. وذلك بخلاف أو على النقيض من حديث إذاعي سمعته قبل مدة في إحدى الإذاعات المنسية والمحدودة التأثير، سمعت أحدهم يزمجر وبصوت أجش يعدِّد مثالب للمرأة ويطنب في ذكر عجزها وقصورها متناسياً جهودها وجهادها في الحياة أُمًّا وزوجة، ولم يتطرق بسطر واحد على الأقل إلى الواجبات والحقوق التي فرضها الإسلام لها مع البر بها والعطف عليها كما جاء ذلك في القرآن الكريم والسُّنة المطهرة، وأين ذلك وأمثاله من حديث الرسول الذي لا ينطق عن الهوى في قوله: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»؟ فتباً للحمق والتسرع عندما يسلبان الإنسان رشده ويبعدانه عن جادة الحق والصواب. ولا يقف الأمر عند هذا الحد من النَّيل من حقوق المرأة بل نرى ونسمع مَنْ يحاول التدخل في خصوصيات المرأة في العلم والعمل والمناداة بتهميشها والتحجير على إرادتها ورغباتها، وهناك نغمات نشاز ودعوات عرجاء تريد أن تسلب المرأة ليس بعض بل كل مكتسباتها وحقوقها التي منها مصدر رزقها وسد حاجاتها وتأمين مستقبلها المادي على الأقل. لقد سمعت من أحدهم وقرأت للآخر وهما يسوقان مبررات عقيمة سقيمة تصب في تحقير وتهميش عمل المرأة في خدمة مجتمعها ووطنها وبنات جنسها.. أحدهم يقول «انظروا إلى الطبيبات في مجتمعنا فقد أصبحن عوانس بسبب حذر الشباب من الاقتران بهن»، والآخر يقول «انظروا إلى المعلمات فقد أخذتهن الوظيفة عن التفكير في مستقبلهن».. وغير ذلك من التبريرات الساذجة، ويلتقيان في تفكيرهما الدوني المتهالك إلى أن التعليم قد جنى عليهن، وأن الجهل للمرأة في نظرهما أفضل من العلم، وأن الخمول والكسل والتقوقع أحسن من العمل والانطلاق لطلب الرزق.. ويظهر لي أن هذين وأمثالهما قد عزلوا أنفسهم عن المجتمع والحياة، وأصبحوا أسرى أوهامهم وتخرصاتهم المريضة العمياء، ولم يعلموا أن الطبيبات والممرضات المواطنات في المجتمع الذي يعيشون على هامشه لا تصل نسبتهن إلى عشرة في المائة 10 % بالنسبة للوافدات المتعاقدات في هذا التخصص الضروري المهم، اللاتي يشكلن 90 % منه. ونخلص في ذلك إلى حقيقة مؤلمة مفزعة ومخجلة، وهي لا تعدو أن تكون حلقة في مسلسل أو مخطط تسلطي متوارث، أساسه وغايته - كما قلنا من قبل - تهميش المرأة والنَّيل منها وتحطيم آمالها وطموحاتها في مستقبل الحياة الفاضلة الكريمة، والعودة بها إلى الوراء إلى سنين التخلف والجهل والانطواء، وهي بالتالي حملة محبوكة الأطراف، وتجد لها - مع الأسف - مَنْ يناصرها ويدافع عنها من أشباه الأميين والمتحجرين ومن لَفّ لفهم من أسرى التقاليد المتوارثة البالية والعادات الجاهلية التي يستميتون للاحتفاظ بها والدفاع عنها؛ حيث يريدون - كما أشرنا سلفاً - العودة بالمرأة إلى سنين الضعف والهوان التي كانت تعتبر المرأة من سقط المتاع وإنسانة من الدرجة الثالثة، أي بعد الرجال والأطفال، تجدهم يبررون صدق أوهامهم بحجج متهالكة نابعة من مخيلتهم المهترئة وفكرهم العقيم ونظرتهم السوداء للحياة من حولهم، وصدق من قال: يقولون نصف الناس في الشرق عاطل نساء قضين العمر في الحجرات ولقد استخلصت من برنامجهم وأهدافهم البعيدة من واقع ما أقرأ عنهم وأسمع عن مخططهم وأرى بنفسي من تصرفاتهم أنهم يتوقون ويتطلعون في مخططهم ضد المرأة إلى تحقيق الآتي: 1 - تهميش المرأة في المجتمع، وبمعنى أوضح أن تعيش على هامش الحياة. 2 - هضم حقوقها، بمعنى أن تبقى طيلة حياتها مسلوبة الحقوق بما يتعلق بإرادتها وإنسانيتها. 3 - تحقير مشاعرها، أو بصورة أخرى تحطيم مشاعرها بوصفها مخلوقاً سوياً له ما لغيره من الحقوق والواجبات والمشاعر والطموحات.. 4 - الاستهانة بكرامتها إلى درجة الحُكْم عليها بأنها قاصرة وغير قادرة على أن ترفع صوتها أو تفاخر بإنسانيتها على الأقل. 5 - تحطيم آمالها إلى مستوى أن تظل دائماً رهينة واقعها، وأن تبقى متقوقعة ومحاصَرَة دائماً دون التطلع إلى المستقبل أو إلى الأمام أو تبصر طريقها حسب إرادتها. 6 - وضع العراقيل الشائكة أمامها ومن حولها، والسهر على حراسة هذه العراقيل وتطويرها إلى درجة الانغلاق والإغلاق. 7 - نزع الثقة منها تماماً والتشكيك بجميع تصرفاتها.. ومعاملتها في محيط هذه الدائرة الضيقة مهما وصلت إليه من مستوى العلم والفهم، ومهما تقدم بها العمر وكسبت من تجارب الحياة. وكأني في ختام هذا الحديث الطويل أجد مَنْ ينبري بالقول متسائلاً: هل للمرأة نفسها دور فيما وصلت إليه حالها وأمورها في بعض المجتمعات ونحن في إشراقة القرن الواحد والعشرين، عصر العلم والنور والوعي؟ فأقول: ربما، ولكن نظراً لما عانته المرأة وجابهته من حصار حولها طيلة السنين المتراكمة الماضية أصبحت محطَّمة الإرادة مثخنة الجراح نفسياً بل وتردد رغماً عنها ما قاله الشاعر المتنبي من قبل: من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام ويتساءل البعض: هل من نخبة واعية تناصرها وتطالب بإنصافها في عصر العدل والإنصاف واليقظة الإسلامية المباركة ومبدأ حقوق الإنسان والإنسانة أيضاً؟ فأقول مجيباً: نعم، هناك مَنْ يريد مناصرتها والوقوف بجانبها لنَيْل حقوقها كاملة غير منقوصة ولا مهمشة ولا مبتورة، ولكن هؤلاء في مثل هذه المجتمعات ينقسمون إلى قسمين: أحدهما يساندها بالرأي ومعايشة همومها وربما تؤرقه هذه الهموم أكثر منها، وهؤلاء لا يملكون أكثر من الرأي، وموقفهم هذا هو ما عناه الشاعر في قوله: لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم تسعد الحال وهناك قسم أو فئة تعي معاناتها حقاً وتملك زمام إنصافها وتحقيق الكثير من مطالبها، ولكن بسبب أو بآخر يعوزها الإقدام، وأحياناً يهيمن على خطواتها التردد والإحجام، وكأني بالشاعر الحكيم يخاطبهم ويعنيهم ويستحثهم في قوله: إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة فإن فساد الرأي أن تترددا والله من وراء القصد والهادي إلى طريق الحق والصواب. عبدالله الصالح الرشيد- الرياض