متأثرة بأعمال سبقتها، ومؤثرة في أعمال بعدها، تأتي هذه الرائعة الغنائية لفرقة راديوهيد الإنجليزية في تاريخ مناسب للفرقة وللوسط الموسيقي لتلك الحقبة، التي أصبح من الواضح فيها ندرة ظهور فرق الروك البديل التي تتبع منهجية واضحة تحاول أن تصبغ نفسها بها من أجل فرض حضورها في ساحة تتوالد فيها الكثير من الفرق التي تزعم إنتماءها إلى الصنف الجديد والمثير. ربما يكون التعقيد هو الرابط الأكيد بين عناصر هذه الأغنية، من البنية اللحنية وكلمات القصيدة الغنائية وحتى النسخة المصورة منها، لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، بل يتطور ليطال المشاعر التي تولدها الأغنية عند المستمعين، وهو ما جعلها العمل الأبرز للفرقة الإنجليزية الشهيرة بمزاجها الداكن، في أعمال شهيرة مثل "كريه"، "شرطة الكارما"، و"روح الشارع" وغيرها. لنتوقف عند البنية اللحنية للأغنية لأنها الأبرز، حيث رأى فيها البعض "الملحمة البوهيمية" لجيل تسعينيات القرن الماضي، وهو ما ينفيه بعض أعضاء الفرقة، إلا أن بنيتها اللحنية المقسمة على مسارات متعددة، منحها شرف المقارنة بخالدة فرقة كوين التي سبق وأن تناولناها في هذه الزاوية، كما أن كتابة البنية تبدو أقرب إلى أغنية البيتلز "السعادة سلاح دافئ"، وهو ما يجعل النقاد يؤكدون على تأثرها المباشر بهذه الأغنية، مع تأثيرات جانبية لنمط أعمال بعض الرواد مثل فرقة بينك فلويد. من المدهش أن تبدأ الأغنية عبر جيتار هوائي، متزامن مع آلة إيقاع يدوية، تندمج وبسرعة ضمن نغمات جيتار كهربائي في سلم جي ثانوي، بمعدل أربع وثمانين ضربة في الدقيقة، ثم يبدأ المقطع الثاني في سلم أي ثانوي قبل الدقيقة الثانية بقليل، يتسارع الجيتار مع همهمات يورك، ولكن محافظاً على إيقاع الطرق السابق، ثم يغلق المقطع على عزف منفرد للجيتار العنيف والمتشعب الإيقاع على يد جوني غرينوود يستمر من بعد منتصف الدقيقة الثالثة بقليل إلى منتصف الدقيقة الرابعة، لينخفض الإيقاع إلى معدل ثلاث وستين ضربة في الثانية في المقطع الثالث، مع تعديل في السلم إلى سي ودي ثانوي، مع أصوات كورالية، وبنية تعتمد نظام المسارات المزدوجة، ومع صوت يورك المتموج الذي ينطفئ ذابلاً، يدخل المقطع الرابع مغلقاً الأغنية في إيقاع المقطع الثاني، وبعد العزف المنفرد الثاني لغرينوود، يقوم باستثمار (رِف) مقتضب كان يحتفظ به، ورأى أنه مناسب لإغلاق الأغنية، حيث تنتهي في الدقيقة السادسة والنصف في توتر محترق جاء مناسباً لكل ذلك الجنون الموسيقي. وعلى الرغم من البنية الرباعية التكوين، إلا أن القصيدة الغنائية، تتكون من ثلاثة نصوص، تحمل كل واحدة منها إشارات خاصة، لحالات مر بها مغني الفرقة الرئيسي ثوم يورك. هناك كثير من الأقاويل تدور حول كلمات القصيدة الغنائية، إلا أنها تجتمع مع تصريح يورك بأن الدافع الأساسي للنص، هي حادثة في أحد الملاهي الليلية بلوس أنجلوس، حيث يفاجأ يورك بوجوده بين مجموعة من الرجال الذين يثيرون فزعه، وسيدة تفقد أعصابها بسبب وقوع شراب أحدهم عليها، يورك يزعم أنه لم ينم ليلته بسبب نظرة عيون تلك المرأة المتنمرة. وعلى الرغم من أن مدخل القصيدة يبدو واضحاً من انطلاقه من حادثة تعرض لها يورك، إلا أن الانتقال بين المقاطع مع كلماتها الجديدة المعنى مضافاً إليها الإحساس الذي تصنعه الموسيقى المصاحبة، يعكسان فوضى عارمة داخل الأغنية، لكننا مع ذلك يمكن أن نقف على أفكار عدة يحملها النص، مثل الهوس والجنون، الغضب العارم، الاعتراض السياسي على الرأسمالية، الشعارات والوعود الانتخابية، الاغتراب، فقدان اليقين وحلول الشك، هواجس طرقها يورك مراراً في العديد من أغنياته. الجدير بالذكر أن الأغنية تأخذ عنوانها من شخصية شهيرة في سلسلة الخيال العلمي "دليل المسافرين بالمجان إلى المجرة" للراحل دوغلاس أدامز. على الرغم من أن الأغنية لم تحقق المرتبة الأولى في قوائم الأفضل في بريطانيا، واستقرت ثالثة في أول عشرة، إلا أنها حظيت بالعديد من المراجعات النقدية المتميزة والتي صنفتها البعض منها بأحد أفضل الأعمال في التسعينات حتى ذلك الوقت، كما أن الكثير من النقاد تعرض لبنيتها اللحنية ونص قصيدتها الغنائية بالكثير من الدراسة والتحليل، بيد أنها في المقابل أكدت المزاج الأسود والكئيب والهازل الذي يكتسح سماء راديو هيد، وهو ما أكده الألبوم الذي ظهرت فيه الأغنية لاحقاً "حسنا كمبيوتر"، والذي حقق مبيعات عالية واستحساناً كبيراً من الجمهور والنقاد، قادته "بارانويد أندريود" عبر الإذاعة المستمرة لها في قنوات إذاعية مثل البي بي سي أو تلفزيونية مثل الإم تي في، بنسخة الأغنية المصورة التي اختارت لها الفرق أسلوب التحريك، عبر المخرج السويدي ماغنوس كارلسون، مبدع شخصية روبين الكارتونية في أسلوب بسيط ومتواضع وفاقع الألوان ولكن جرئ ومتحرر إلى حد متطرف، وهو ما قاد أم تي في الأمريكية إلى حذف مقاطع من الفيديو الطويل أو التلاعب به، كما أن بعض الإذاعات طلبت من الفرقة تحرير الأغنية إلى نسخة أقصر لإذاعتها، وهو ما رفضته الفرقة مطلقاً، بينما قدمت نسخة مطولة منها بلغت الضعف في إحدى الجولات الحية التي قدمتها، قبل التسجيل الأخير لنسخة الألبوم ذائع الصيت.