ليس بإمكان أحد منا أن يُعفى من التجربة، أو يتحالف مع ذلك الطريق الطويل دون أن يعبر منه، أو يخطو على كل تفاصيله. وليس بالإمكان أن تكتسب تلك الخبرة العميقة وأنت تكتفي بملامسة أطراف الحلم وتقيم معه صيغة معاهدة، لا يمكن أن تنطلق بها حياتياً أبعد من حدود الحلم نفسه. تجد أحدهم منهاراً، مستنفداً كل طاقاته النفسية والصحية لاصطدامه بموقف ما جعل التعب وانغلاق الفكر يتملكانه، تجده وقد سد كل أبواب الخروج، وكأنها النهاية الحتمية له، وعندما تسأله، وتسمع منه تفاصيل ما يمر به، تجد أنه قد تعامل مع الموقف بهشاشة، وعدم تحمل، وضعف وانهيار منعه من المعالجة، أو حتى تقدير الموقف، ووضعه في حجمه الأساسي ورغم تعاطفك معه إلا أنك توقفت أمام عنفوان ضعفه، وانسداد شرايين تفكيره في مواجهة موقف تعتقد أنك قد مررت به، وتحملته رغم قسوته، وغيرك أيضاً عبره وتحملّه وبالتالي أنت مررت بالتجربة، واكتسبت الخبرة، وهو يواجهها للمرة الأولى والمفترض أنه سبق وواجهها، وهو ما يكشف في مواقف كهذه عن أن العمر ليس مقياساً للتجربة، وأن التحمل قد يختلف في نسبه من شخص إلى آخر، لكن في المحصلة تظل التجربة هي التي تحكم الموقف، وتسيّره إلى الطريق الذي تريد أن تذهب إليه. البعض في سنيّ عمره الأولى وبالذات في مرحلة الشباب يمعن في العصبية، والشراسة، والعنف، حتى وإن كان على حق، وهو ما يتطلب أن تكون طريقة المطالبة بهذا الحق هادئة، لكنها الطباع، وحدها هي التي تتملك هذا الشخص، الذي يستمر مفتقداً للحكمة في التعامل، والتروي في تخاطبه مع الآخرين حيث حدّته تبعد عنه من حوله، حتى وإن كانوا من المقربين، لأن الأمر هنا يتعلق بالحق في الاقتراب، أو الابتعاد، فمن هم مضطرون إلى الاقتراب منه كالأهل والأقارب دوماً يتعاملون معه بحرص، وحدود، أما من لا يمت إليه بصلة قرابة أو عمل، فتجده لا يتقبله، ويبتعد عنه تماماً، المشكلة أنه لا يعتني، ولا يتوقف أمام ردود الفعل، أو النفور منه، بل يعتبرها ميزة، ويعتبر ابتعاد الناس عنه اتقاءً لشره وغضبه غير المبرر قوة منه، وحكماً نافذاً أصدره عليهم ولابد أن يتقبلوه، ولا يفكروا في نقضه. بعد زمن طويل وبعد أن فقد الثقة في كل من حوله قد يتغير لأن مسببات تلك الثورة وذلك الغضب الذي غلّف تعامله مع الآخرين قد زال، وقد يفكر أيضاً بعد تصحيح كثير من صفحات الحياة التي قرأها متأخراً رغم وجودها أمامه منذ زمن أن ما كان يمارسه من افتراء وعنف كان غير مبرر، ولا معنى له، وكان من الممكن أن ينتهج أسلوب جذب الآخرين بالكلمة الطيبة والتي هي صدقة أكثر من تلك الكلمة الشرسة التي أقفلت الأبواب في وجهه الآن رغم حاجته إلى أن تكون مفتوحة لأن الزمن الذي منحه رداء فرعون قد انتهى، ولم يتبق له إلا ملامح زمن محاطاً ببشر لا يعبأون به، ولا يعرفونه، ولا يعنيهم التفكير في أن تحل عقده، ولا يملأ الخوف صدورهم من حضوره. غابت قوته، وغاب زمنه بمن كان فيه، لكن من حاول الوصول إليهم برغبة التغيير في التعامل امتلكوا الشجاعة الشخصية لعدم تحمله، أو فتح الأبواب له. الوجه الآخر الذي من الممكن أن تتوقف أمامه طويلاً هؤلاء الذين برغم التجارب القاسية التي مروا بها، والنكسات التي تفجرت أمامهم، ظلوا صامدين، متصالحين مع أنفسهم، حاملين هذا التفاؤل الجميل إلى نهاية نفق الحياة!