ننتهز بداية العام الدراسي الجديد لنقدم التهنئة إلى أبنائنا الطلبة مع خالص التمنيات لهم بالنجاح والتوفيق في عامهم الدراسي وحياتهم المستقبلية. ويجب ألا تقتصر هذه المناسبة على التهنئة فقط بل من الواجب أن نجعل منها فرصة لمراجعة أهم التحديات التي تواجه واقعنا التعليمي والتربوي. ولا أعتقد أن أحداً من القراء سيستغرب من القول بأن النظرة الاجتماعية الخاطئة إلى العمل اليدوي وخصوصاً عند جيل الشباب والعزوف الكامل عنه إلى العمل المكتبي تمثل أهم هذه التحديات التي تنعكس سلباً على حاضرنا ومستقبلنا الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، لدرجة يمكن معها القول بأنها أكبر خطر يهدد العملية التنموية في بلادنا. من أجل ذلك يصبح لزاماً على المؤسسات التربوية إعداد الطلبة والطالبات الإعداد العملي الصحيح لكي يكونوا عناصر ناجحة في حياتها ومنتجة في مجتمعاتها. وأن هذا يتطلب أول ما يتطلب مواجهة هذه النظرة المتخلفة إلى العمل الحرفي بالتثقيف والتوعية بآثارها السلبية والعمل على معالجتها قبل أن تستفحل. وفي بادئ الأمر لا بد من القول بأن هذه النظرة إلى العمل اليدوي والحرفي نظرة جديدة علينا وعلى مجتمعاتنا حيث أننا ننتمي لأمة تعتبر العمل شرفا، وهذا خلق من أخلاق ديننا الحنيف وجزء لا يتجزأ من تربيتنا الإسلامية. والإشارات إلى الكسب والعمل في القرآن والسنة أكثر من أن تحصى، ولعل من أهمها ما ورد في الحديث الذي يرويه البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما أكل أحد طعاما قط خيراً من أن يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده". ويقول الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" شارحاً الحديث: "وفي الحديث فضل العمل باليد، وتقديم ما يباشره الشخص بنفسه على ما يباشره بغيره، والحكمة في تخصيص داود بالذكر: أن اقتصاره في أكله على ما يعمله بيده لم يكن من الحاجة؛ لأنه كان خليفة في الأرض، كما قال الله تعالى، وإنما ابتغى الأكل من طريق الأفضل؛ ولهذا أورد النبي صلى الله عليه وسلم قصته في مقام الاحتجاج بها على ما قدمه من أن خير الكسب عمل اليد". ولم يكن العمل مقتصراً على داود عليه السلام فقد كان العمل جزءا من حياة أنبياء الله جميعاً، حيث تروي الروايات أن نوحاً وزكريا كانا يعملان في النجارة وكان إدريس خياطاً وسيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليهم جميعاً قد اشتغل بالتجارة في مال غيره وجميعهم اشتغل برعي الغنم كما أخبرنا الحديث النبوي. أما أصحاب الرسول رضوان الله عليهم جميعاً فقد كانوا يحترفون الحرف والمهن ويجيدونها، فهذا أبو بكر الصديق الذي هو من أشرف العرب كان يعمل تاجراً حتى أنه لما ولي الخلافة خرج في يومه الأول إلى السوق وهو يحمل لفافة فيها قماش فرآه عمر رضي الله عنه وأبو عبيدة فوقفا يسألانه عن وجهته فقال: إلى السوق، قالا: لماذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال: فمن أين أطعم أولادي؟ قال عمر: انطلق معنا نفرض لك شيئاً من بيت المال. فهذا خليفة المسلمين لا يرى بأسا في الخروج إلى السوق لكي يكسب قوته وقوت عياله. وقد كان خباب بن الأرت حداداً، وعبد الله بن مسعود راعياً للغنم، والزبير بن العوام خياطاً وتاجراً، وسلمان الفارسي حلاقاً. وكان من اهتمام الصحابة بالعمل أن عمر بن الخطاب يقول: "إني لأرى الرجل فيعجبني، فأقول: أله حرفة؟ فإن قالوا: لا، سقط في عيني". ومن البدهيات أن عمل المرأة جزء مهم من النشاط الاجتماعي والاقتصادي الذي لا غنى عنه للمجتمع. ولا أعني بالحديث عن عمل المرأة الوظيفة، لأن هذا قرار شخصي أمره للمرأة ترى فيه رأيها. ولكني اتحدث هنا عن الدور الفعال الذي يجب أن تلعبه المرأة في المجتمع من خلال مباشرتها لمهماتها بنفسها، والتي من أهمها تربية أبنائها وأن لا تترك ذلك لغيرها. من أجل ذلك أحببت أن أذكر هنا سيرة اثنتين من أعظم نساء المؤمنين وهما خديجة بنت خويلد وابنتها سيدة نساء أهل الجنة فاطمة الزهراء البتول رضي الله عنهما. فقد كانت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها من أكبر وأنجح تجار قريش قبل البعثة وبعدها. ومن علامات نجاحها أنها كانت توظف أكثر الرجال أمانة في تجارتها، حتى أنها عندما سمعت عن أمانة الرسول صلوات الله وسلامه عليه عرضت عليه العمل في تجارتها. وخديجة رضي الله عنها مثل نبي الله داود لم تكن بحاجة إلى المال لكي تعيش فقد كانت رضي الله عنها ثرية ورثت المال الكثير عن أبيها. وكان من فوائد عملها أنها سخرت المال الذي اكتسبته في نشر الدعوة الإسلامية، لكن أكبر ثمرة جنتها كانت التعرف على رسول الله من خلال عملها التجاري وعرض الزواج عليه مع ثرائها ونسبها اللذين جعلا منها محط اهتمام السادة، لكنها آثرت الرجل الأمين الفقير، ولم يكن ذلك إلا بسبب عملها التجاري. أما المثال الثاني فهو لابنتها فاطمة الزهراء التي كانت من أحب الناس إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه وأشبه الناس به، كما روت أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - قالت: "ما رأيت أحداً كان أشبه كلاماً وحديثاً برسول الله من فاطمة وكانت إذا دخلت عليه قام إليها فقبلها ورحب بها وكذلك كانت هي تصنع به". وهذا الحديث يدل دلالة واضحة على الحب الكبير الذي كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه يكنه لابنته فاطمة، لكن هذا الحب لم يدفع به إلى تدليل ابنته وإراحتها من العمل اليدوي مع قدرته على ذلك، إذ أن السيدة فاطمة عاشت حياة متواضعة في بيتها مع الإمام علي رضي الله عنهما وكانت تدبر شؤون البيت وترعى أطفالها الأربعة الحسن والحسين وزينب وأم كلثوم. وكان عملها في البيت قد شق عليها وقد أثرت الرحى في يدها وضعف بدنها مما دفع بالإمام علي رضي الله عنه إلى التفكير بجلب خادمة تساعدها في شؤون البيت، فلقد روى لما علم علي أن النبي قد جاءه خدم قال لفاطمة لو أتيت أباك فسألتيه خادماً؟ فأتته فقال النبي :"ما جاء بك يا بنية؟" فقالت: "جئت لأسلم عليك" واستحت أن تسأله. فأتاها رسول الله فقال علي يا رسول الله: أدارت الرحى حتى أثرت في يدها وحملت القربة حتى أثرت في نحرها فلما جاءك عدد من الخدم أمرتها أن تسألك فتستخدمها خادماً يقيها التعب وما هي فيه من الشدة، فقال النبي: "والله لا أعطيكما وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم، لا أجد ما أنفق عليهم ولكني أبيعهم وأنفق عليهم أثمانهم" ورجع رسول الله إلى بيته ثم أتاهما وقد تغطيا بقطيفة إذا غطيا أقدامهما تكشف رأساهما فتأثر ثم قال: "مكانكما، ألا أخبركما بخير مما سألتماني؟" فقالا: بلى. فقال: "كلمات علمنيهن جبريل -عليه السلام- :تسبحان في دبر كل صلاة عشراً وتحمدان عشراً وتكبران عشراً وإذا آويتما إلى فراشكما تسبحان ثلاثاً وثلاثين وتحمدان ثلاثاً وثلاثين وتكبران ثلاثاً وثلاثين" ثم ودعهما ومضى فما زالت فاطمة وعلي -رضي الله عنهما- يواظبان على ترديدهما طوال حياتهما، وما زالت الأمة من بعدهما تردد هذه الأدعية ويكتب لهما الأجر إلى قيام الساعة. وهنا لا بد من أن نتساءل إذا كان العمل اليدوي في البيت وأي عمل أشق من إدارة الرحى وحمل قربة الماء على المرأة لائقاً بفاطمة الزهراء البتول سيدة نساء الجنة، فما بال نسائنا اليوم يترفعن عن العمل؟ وإذا لم تكن خديجة أم المؤمنين وفاطمة الزهراء رضي الله عنهما قدوات نسائنا، فبمن يا ترى يقتدين اليوم؟ ولم يكن حب العمل وممارسته محصوراً في جيل الصحابة بل استمر الحال مع مرور الأجيال حتى عندما ازداد الثراء عند المسلمين في ما يسمى بعصورهم الذهبية. فقد كان إمام المسلمين أحمد بن حنبل يؤجر نفسه حمالاً في الطريق إذا لم يجد ما ينفقه سوى هذه الأجرة. وكذلك وعى تاريخ أحمد أنه كان ينسج ويبيع النسيج ليأكل، ومن هو أحمد بن حنبل؟ إنه إمام الأمة الذي حفظ الله به الدين من فتنة عظيمة. فيكفي أن نعلم من فضله ومكانته أن بعض الروايات ذكرت أن مليوناً من أهل بغداد خرجوا في جنازته. وفي نفس الوقت فإن بنات الإمام بشر الحافي كن يعملن في غزل النسيج. فإذا كان هذا هو تأريخنا وهذه هي أخلاقنا فما بالنا نعرض عن العمل اليدوي الذي صار عيباً إلا إذا كان عملاً مكتبياً يجلس فيه الموظف على مكتب مريح في غرفة مكيفة يخدمه فيها العديد من الناس، وتجلس المرأة في بيتها وتترك تربية أبنائها "للخادمات" وتشغل نفسها بمشاهدة مسلسلات الدراما العربية والمدبلجة وتترك شؤون المجتمع وكأنها غير معنية بذلك، فكيف السبيل؟ إن الحل يبدأ من المدارس ويكون بإعادة النظر في المناهج التعليمية لكي تركز على الأمور العملية أكثر من تركيزها على القضايا النظرية التي لا صلة لها بالواقع. ولا بد من إيجاد شراكة في العملية التعليمية بين المدارس وجميع مؤسسات المجتمع خصوصاً القطاع الخاص من أجل وضع برامج ومساقات تربوية تمنح الطلاب والطالبات الفرصة للتدريب العملي في الشركات والمؤسسات والمنظمات الخيرية وغير الحكومية. ثم نحتاج إلى القدوة من قادة المجتمع في أن يفعلوا فعل الدكتور غازي القصيبي رحمه الله، وهو الذي كان يعمل ليس لحاجته للعمل فقد كان رحمه الله يتصدق براتبه، والذي كان يترك راحة مكتبه ويخرج إلى المحلات العامة والمطاعم لكي يقدم الخدمة للزبائن من أجل أن يكسر النظرة الاجتماعية الخاطئة للعمل اليدوي. واليوم تبقى المشكلة التي حاول القصيبي جهده في معالجتها وهي بحاجة إلى قدوات من أمثاله تربي وتعلم الشباب معاني حب العمل، ورحم الله أبا فراس: سيذكرني قومي إذا جدّ جدّهم وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر * سفير العراق لدى المملكة