لقيته يوم عاد من عمرته فبدأته بالسلام والدعاء بقبول عمرته فدعا لي بمثل ذلك وشكر الله ثم شكرني، لكنّي لحظت أنّه ضائق الصدر ويكتم ما في نفسه فسألته: ما لك يا أخي؟ عسى ألا تكون لقيت في عمرتك ماتكره. أجاب: أمور شاهدتها في مكة وسمعتها لا يرتاح لها بال الغيور على دينه ووطنه ، ومما زادني همًّ تركها بلا تغيير، ولا شروع في التغيير وكأنّها محلّ رضًى ممن يعنيهم الأمر سكتّ قليلا أنتظره يكمل حديثه إلاّ أنّه لم يفعل، فأثرته قائلا: أفصح، فما تضمره خطير في ما يبدو، لا تدعني تذهب بي الظنون في كلّ مجال، فربّما لم يكن مالقيته من الخطورة بحيث يحملك على كلّ هذا القلق، فالناس يختلفون في نظرتهم ويتفاوتون في تقديرهم لما يصادفهم من المشكلات. أبن عما رأيته فلم تصبر عليه، فإن كان أمرا يمسّك وحدك شاركتك الهمّ وواسيتك وسلّيتك وربّما أعنتك على دفعه: ولا بدّ من شكوى إلى ذي مروءة يواسيك أو يسليك أو يتوجّع وإن كان أمرًا عامًّا نظرنا في تذليله وتلمّس الحلول الملائمة وسألنا الله العون على ذلك. وقد نردّ الأمر إلى من يعنيهم أمر هذه المدينة فإنّهم حريصون على ما يصلح شأنها في ما أحسب. أجابني: لو كان أمرًا يخصّني صبرت عليه ولم أتبرّم تسليمًا بقضاء الله وقدره، وما كنت في يوم من الأيّام معنيًّا بنفسي كلّ العناية، لست في شيءٍ من قول أبي فراس الحمدانيّ: معلّلتي بالوصل والموت دونه إذا متّ ظمآن فلا نزل القطر وإنّما أتمثّل قول أبي العلاء المعرّيّ: فلا هطلت عليّ ولا بأرضي سحائب ليس تنتظم البلادا سألت الله له الثبات والتوفيق. بعد ذلك دعوته إلى الشروع في بيان قضيّته فلعلّ في ذلك ما يهدي إلى تيسير العسير وتذليل الصعب، وما يعود على الجميع بالمنفعة، وكلّنا نسعى إلى ذلك، فعسى الله أن يقدّر لعباده ما فيه صلاح دينهم ودنياهم. رفع رأسه وذكر الله ثلاثًا ثمّ قال: أبدأ بما يعانيه زوّار مكّة – شرّفها الله – من الغلاء الفاحش، في أجور المساكن، ذلك الأمر الّذي جاوز الحدود حتّى دخل في باب استغلال الحاجة والتحكّم الّذي ليس له ما يسوِّغه، الغرفة الّتي تؤوي شخصين يطلب فيها ألفا ريال فصاعدًا ولا حدّ للتصاعد، وكان المسلمون قد ابتهجوا بهذه المباني الشامخة الحديثة وتوقّعوا أن تكون مصدر تيسير وتخفيف للمعاناة إلا أنّ ذلك لم يكن بسبب طائفة من النّاس يسّر الله عليهم وأغدق لهم المال فصاروا يتباهون بدفع الأجور الباهظة، زادهم الله من فضله وأدام عليهم نعمته ولم يدروا أنّ ما فعلوه يحْمِل أصحاب العقارات على الإصرار على رفع الأجور والاستمرار في ذلك، ولم يلتفتوا إلى أنّ ما يفعلونه يعود على من دونهم بالمشقّة وتحمّل ما لا يكاد يستطاع. ما يفعله أصحاب هذه العقارات- وبخاصّة ما يجاور الحرم- نقض للمقاصد المتوخّاة من إنشاء هذه المباني ومنها: التيسير على المعتمرين والحجاج وزوّار البيت أدام الله عزّه ونصر أهله وجعلهم دعاة إلى البرّ أعوانًا عليه. ومما زاد المشكلة تأجيرها لشركات أجنبية أو غير أجنبية همها الثراء والبحث عن المزيد بلا توقف. لقيت أسرة سعودية جاءت للعمرة فاضطرت إلى استجار غرفه ذات شخصين بثلاثة آلاف وخمس مئة ريال لأنها أدركها الفجر ومع ذلك لم تقضِ في هذه الغرفة إلا ساعات ثم سافرت ، وحدثني شخص انه طُلِب منه عشرون ألف ريال للغرفة الواحدة لليلة الواحدة ومسؤولية هذا الخبر عليه . دهشت لما سمعت وقلت: لعلي أنفس كربه واهون الأمر عليه، فذكرته بأن لمكة صفة خاصة: تطلق فيها الأجور المقيدة في المواسم ويترك لأصحاب العقارات الحق في التأجير بما يريدون ، فمثلا الفنادق ومافي حكمها تخضع لتسعيرة وزارة التجارة إلا فنادق مكة ومافي حكمها فلا تخضع لها في مواسم العبادة ، فلعل لهم عذراً وأنت تلومهم. قال لي : أخي الكريم هذا لايخفى عليّ وليس في ذلك عذر، فهذه العادة التي أصبحت كالعبادة ليس لاستمرارها وجه ، كانت مقبولة يوم كانت مكة -شرفها الله- في عزلة من الناس لايصلونها إلا في مواسم محدودة مع قلتهم ويوم كانت التجارة فيها ضعيفة الحركة ، أما اليوم فالسنة كلها مواسم والزوار يقدمون إليها بمئات آلاف في غير الحج ، أما في الحج فأعدادهم معلنه تتجاوز المليونين ، والتجارة فيها رائجة والحركة في أسواقها التجارية على خير مايرام فليست بأقل في هذا الميدان من نظيراتها الكبريات في المملكة من حيث التجارة، أما من حيث الزوار فهي تفوق كل مدينه أخرى ، إذن فاستمرار هذا الاستثناء غير محمود ، ولا يجوز أن يترك الناس لأهوائهم ورغباتهم فحب المال طبيعة ابن آدم ((وتحبون المال حباً جما)) فلا مفر من تهذيب هذه الطبيعة لأن لا يظلم الناس بعضهم بعضا. أُفحمت بهذا الرد فلم اجد ما أقول، فحولت الحديث إلى جانب آخر، قلت : هذه العقارات التي تتحدث عنها فيها فرصة مهيّئة لعمل الشباب السعودي : الرجال والنساء كما شاهدت في بعضها. سارع بالرد : هذا محدود وجل العاملين من غير السعوديين بل إن بعض هذه الشركات السعوديون فيها أقل القليل ومن هذه الشركات ما أُسندت إدارتها إلى شركات أجنبية وعمالها وموظفوها حين تتصل بالهاتف يبدؤونك بالحديث باللغة الانجليزية وتظن المتحدث ليس عربياً وسرعان ما يتبين انه عربي، ضاع المال والعمل واللغة، فهل من عذر! .