اقترن الارتحال بالبحث، ثم بالاكتشاف في عموم التجربة السردية لأمين معلوف، فمعظم شخصياته ترتحل بين القارات والإمبراطوريات والدول في سعي لاكتشاف ذاتها وانجاز هويتها السردية، فترتسم صور مركبة للقيم الدينية والثقافية والاجتماعية على خلفية الأحداث السردية، حدث ذلك مع ليون الإفريقي، وماني، وعمر الخيام، وبالدارسار، وأوسيان كتابديار، وطانيوس، فجميعها تترقب خوض تجارب في عوالم غير عوالمها، فتشق طريقها في العالم الافتراضي لتنتهي على غير ما بدأت به. وغالبًا ما تطوف الشخصيات المترحّلة في أماكن نائية فتعود محمّلة بتجارب جديدة، وتخيلات مبتكرة. وتجري غزارة السرد تعديلا على مغامرتها الذاتية، فتحدّد مسارها منذ البداية إلى النهاية، وتفصح عن مضمون التأكيدات، والتأويلات، حول العالم الذي طافت فيه. وتورث تجربة الارتحال الشغف، والإثارة، والفضول لأنها تشبع نزوعًا راسخًا هو الأكثر شيوعًا عند بني البشر، تمثله الرغبة في معرفة الأحداث الطريفة، والنادرة، وغير المألوفة، ثم متعة التوغل في عوالم مجهولة، والسير في هدي الاحتمالات، وخوض مغامرة من دون اكتراث بالعواقب، فالارتحال إطار ناظم لجملة من التنوعات الأسلوبية، والرؤى الذاتية، والمواقف الثقافية، والاكتشافات الجديدة، والغوص في مناطق نائية، ثم العودة المظفّرة بذخيرة عجائب حقيقية. على أن كل ذلك لم يصرف أمين معلوف عن الالتفات إلى سلالته، ورسم صورة مقرّبة لارتحالاتها في القارات؛ بحثا عن فرض للحياة أفضل، وفي كتاب «بدايات» قام برحلة بحث في أصول عائلته الكبيرة، ومصائر أفرادها منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى ثلاثينيات القرن العشرين، لم يقدّم معلوف تاريخا رسميا موثقا للسلالة التي ينتمي إليها، إنما قدّم بحثا سرديا شائقا في المصائر والأفكار، وفي المنافي، واحتفى بحياة أجداده وهجراتهم، وصراعاتهم الدينية والدنيوية في جبال لبنان، وأبدى أسفه لأنه أهمل ذلك إلى وقت متأخر، لكنه عرض للمسوّغ» عجبا لأنني لم أرسخ قبل اليوم أكثر من فقرات قليلة للحديث عن أهلي! ولكن هذا الصمت في الحقيقة جزء من إرثي أيضا». وكما حدث في سائر رواياته، فقد اتسع الفضاء السرد لحركة الشخصيات جميعا، وهي تنطلق من بؤرة مكانية معينة إلى مناطق كثيرة في العالم، فتعبر الحدود الجغرافية، والهويات الدينية والثقافية، والراوي نفسه، وهو المؤلف الضمني يقيم في باريس، ويكتب عن «أصوله» الشرقية من جزيرة تقع في المحيط الأطلسي، لكن شخصياته ترتحل إلى قارتي أميركا الشمالية والجنوبية، وأوربا، أو تمكث حيث هي في لبنان تعيش التحولات التاريخية والاجتماعية والدينية التي رافقت ظهور الدولة الحديثة بعد أفول الإمبراطورية العثمانية بسبب الزحف الاستعماري الغربي. ولكي يتوفر الراوي على إمكانية تعقّب حركة أسلافه المتناثرين في العالم، فلابد له أن يرتحل بنفسه مقتفيا آثارهم للحصول على وثائقهم، أو مقابلة شهود عيان أحياء عاصروهم ليقدموا شهاداتهم حول أقرباء ارتحلوا إلى ما وراء الأطلسي، فتغيرت أسماؤهم، ومعتقداهم، واختفت أصولهم المشرقية، ولم يعد أحد يعرف من أي أرض قدموا، بل وينبغي على الراوي أن يتقصى كلّ ذلك في الوثائق الرسمية، والصحف. ولعل أرشيف العائلة الذي جرى الاحتفاظ به فيه في صندوق عتيق كان خير عون له في رسم ملامح بعض الشخصيات. ففيه نُبذ من مراسلاتهم، وبعض وثائقهم وصورهم، وشذرات مما كتبوا. ولترتب ذلك فينبغي على الروائي أن يتقمص دور الباحث للتحقق من أصول توارى معظمها خلف الأحداث التاريخية الكثيفة التي حجبت عن أسلافه في لبنان، وأميركا، وكوبا، حقيقة أصولهم، ومعرفة مصائرهم. ارتسمت قواعد الميثاق السردي في الكتابة عن الأصول حينما جرى تحديد النسب والمعتقد والهوية في إطار سردي واحد: «أنتمي إلى عشيرة ترتحل منذ الأزل في صحراء بحجم الكون، مواطننا، واحات نفارقها متى جفّ الينبوع، وبيوتنا خيام من حجارة، وجنسياتنا مسألة تواريخ أو سفن. كل ما يصل بيننا، وراء الجبال، ووراء البحار، ووراء بابل اللغات، رنين اسم..ما شعرت في حياتي قط بانتماء ديني حقيقي - أو ربما بانتماءات، لا يتصالح أحدها مع الآخر؛ ولم أحسّ يوما بانتساب كامل إلى أية أمة من الأمم - والحق يقال إنه ليس لدّي، في هذه الحالة أيضا، سوى أمة واحدة. وبالمقابل أتماهى بسهولة مع مغامرة أسرتي الكبيرة، تحت كل السماوات، مع المغامرة، وكذلك الأساطير، على غرار الإغريق، هويتي تستند إلى أسطورة من أساطير الميثولوجيا - أعلم أنها زائفة ولكني أجلّها وكأنها تختزن الحقيقة». حدد هذا الميثاق مسارات ثلاثة، أولها: هوس الارتحال، وثانيها: الانتماء الثقافي المرن، وثالثها: التحوّل الدائم، وسوف تلتقي هذه المسارات مجتمعة في شخصية الراوي، فقد كان هو نفسه مترحّلا، ولم يتوار خلف إيمان زائف، إنما أعلن عن شكّه، ثم أنه انتهى إلى أن فكرة الهوية بذاتها زائفة؛ لأنها نتاج أساطير دائمة التغيير. ويمكن أن نستنج أن كل ذلك قد انتهى إليه من الميراث الأسري الذي صنعه أسلافه، فلطالما ترحلوا بحثا عن أفق أوسع للحياة، أو أملا بمعنى أخصب لها، وربما كان ذلك لطموح بثروة تقي صروف الدهر في عالم متقلّب غادر، أو أنهم هاجروا لمجرد إشباع هوس الارتحال إلى مكان جديد. ولم تكن معتقداتهم الدينية ثابتة وراسخة، فقد شهدت السلالة تحولات وارتدادات دينية، وما لاح في الأفق ملمح لعصبية عرقية، إلى ذلك لم يتقرر إطار مغلق لهوية يندرج فيه أحد من أفراد عائلة معلوف، فهم يتبادلون المواقع المذهبية، ويهجرون الأوطان الأولى، وبها يستبدلون أخرى، ويكتسبون أسماء أجنبية جديدة، وينتمون إلى عقائد مختلفة، وفي المنافي يبذرون سلالات جديدة لا تعرف أصولها الأولى في جبال لبنان. جاء كتاب «بدايات» بحثا في الأصول، ولكنه مستعينا بالوثائق والتواريخ، ابتكر الصيغة السردية التاريخية، إذ انفصل عن كونه تاريخا صرفا، وتحاشى أن يكون تخيلا محضا، فاقترح الطريقة المناسبة للرواية التاريخية في أنها تتردد بين الأطر التاريخية العامة، وابتكار المواقف، واستنتاج رؤى الشخصيات من خضم المواقف التي مرّت بها. وفي نهاية المطاف ارتسم الهدف النهائي، وهو إعادة تركيب ذلك التفكك المرير لأسرة كبيرة تناهبتها المعتقدات والطموحات، والهوس الغامض بالتغيير. لقد وصفت البدايات الأولى، وكشفت المسارات المتعددة للأسرة، وسلّط ضوء كاشف على الخلفيات الدينية، والصراعات الدنيوية. ولم يقع تجاهل العداوات، والنزاعات، والصراعات، بل جرى التنقيب في المعضلات كلها، وأخيرا رسمت النهايات الملّعقة حيث تنتظر بقية سلالة معلوف دورها في أماكن مختلفة لتجد لها مدونة تكميلية أخرى.