حُب المعرفة والسعي لاستقراء المستقبل من الصفات التي جبل وخلق البشر عليها والعلوم الحديثة تعتمد الدراسات المستقبلية كواحد من العناصر المهمة لنجاح المؤسسات ، لذا فإن أخطر ما يهدد الدول والشركات عجزها عن قراءة ومعرفة المستقبل بصورة شاملة ، وتهتم الدول المتقدمة بإقامة مراكز بحثية مختلفة ومرتبط بعضها بالجامعات والبعض الآخر مستقلة ، أهدافها ومهامها الأساسية وضع تصورات وتنبؤات علمية لمستقبل الدول من جميع الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية من خلال دراسات وتحليلات علمية ووفق منظور علمي معتمدة على الإحصاءات والبيانات ، كذلك فإن هذه المراكز تخدم بعض الشركات والمؤسسات العملاقة في العالم . إن الدراسات المستقبلية من العلوم الجديدة نسبياً إذ لم تلق رواجاً لدى العلماء والمفكرين في الدول المتقدمة إلا في وقت متأخر ، كما أنه قد حظي باهتمام أكبر وأوسع عندما تحول منذ مطلع السبعينيات من مجرد تمرينات واجتهادات ذهنية وفكرية فردية من قبل طائفة من بعض العلماء والمفكرين إلى اجتهادات علمية منظمة أكبر حجماً وأكثر شمولاً وتنوعاً تقف وراءها وتدعمها وتمولها وتنشر نتائجها مؤسسات وهيئات دولية ، ونجد أن هناك من يرجح بروز هذه الدراسات المستقبلية وتعاظم الاهتمام بها إلى عاملين رئيسين هما أزمة النظام الرأسمالي والتقدم العلمي والتقني ، وقد أسفر العامل الأول عن ظهور كتابات حاولت أن ترسم صورة أفضل لمجتمع الغد تعتمد على مظاهر التقدم العلمي والتقني . أما العامل الثاني فهو تطور أدوات المعرفة والقياس وأساليب تحليل النظم كتطور الأدوات المعرفية ، فقد أعطى دفعة قوية للدراسات المستقبلية وإلى جانب هذين العاملين هناك عامل آخر ، لا يقل أهمية ، وهو ظهور عدد من الدول الناشئة الجديدة التي تبحث عن وسيلة للتغلب على التخلف الاقتصادي والاجتماعي لديها ، والتي وجدت في الدراسات المستقبلية وسيلة هامة للتنبيه على السلبيات المعتمدة حالياً ، وكيفية اختيار سياسات بديلة لدرء تلك السلبيات في المستقبل . فعن طريق الدراسات المستقبلية يتم وضع عدة بدائل معينة للمستقبل ، توضح عدة مسارات مستقبلية قد تتخذها النظم الاجتماعية والاقتصادية في المجتمع وبالتالي فإن هذه الدول الناشئة يمكنها بما توفره لها الدراسات المستقبلية من وضع صور عديدة للمستقبل بأن تعمل من خلال سياسات معينة على الاقتراب من البدائل الأفضل الذي تحقق لها غاياتها في تحقيق التنمية والقضاء على عوامل التخلف لديها . يقول الروائي البريطاني وورثي worthy (إنك إذا لم تفكر بالمستقبل فلن يكون لك). ولأن المستقبل يولد في رحم الحاضر فإنك ستكون إزاء حقيقة ( إن كل حاضر كان يوما في عداد المستقبل ) ، وسيصبح ماضياً فالعالم يعيش في حقبة زمنية حيث كل شيء ممكن ولا شيء مؤكد . إن دراسات المستقبل تختلف عن التخطيط الإستراتيجي إذ تعنى الأولى بالتعرف على احتمالات ما سوف يكون في المستقبل أي أن نتائجها متعددة الاحتمالات مع محاولة ترجيح أي الاحتمالات أكبر واقعية فيما تعنى الثانية ( التخطيط الإستراتيجي ) بتحديد هدف معين مسبقاً ومحاولة الوصول إليه وبالتالي فإن الدراسات المستقبلية تساعد بشكل كبير في توجيه التخطيط الإستراتيجي . إن الهدف النهائي من الدراسات المستقبلية ومحاولة معرفته ؛ هو التمكن من السيطرة عليه وصناعة عالم أفضل يعيش فيه الإنسان ، ولما كان المستقبل لا يزال تحت التشكيل فإنه يمكن للناس تحديده وتقييمه من خلال أفعالهم الهادفة ، فالمستقبل هو الجزء الوحيد في حياتنا الذي يمكن تغييره بما نفعله أو لا نفعله ومها كانت احتمالات المستقبل فيجب إعداد العدة لمواجهة التحديات المتوقعة . ومن البديهي القول إن الدراسات المستقبلية تتيح للمجتمعات إضفاء بعد مستقبلي بعيد المدى على منهجية التفكير واتخاذ القرارات الرشيدة نحو مستقبل أفضل، كذلك أن ما نتخذه من قرارات في الحاضر سوف يؤثر بصورة أو بأخرى على مستقبلنا ومستقبل أجيالنا القادمة ، وإذا أردنا لهذا المستقبل أن يكون أقرب ما يكون فلابد لنا أن نضع ذلك المستقبل على شاكلة نرضاها لمستقبلنا من خلال اتخاذ القرارات التطويرية الآخذة بعين الاعتبار النتائج والتداعيات المحتلمة لهذه القرارات على مدى زمني بعيد نسبياً . وهنا يأتي دور الدراسات المستقبلية على استطلاع هذه النتائج والتداعيات على المسارات المستقبلية فإذا كانت النتائج والتداعيات تسهم في تشكيل المستقبل المرغوب فيه اعتمدناها وإذا لم تكن تسهم في ذلك فإننا نسعى إلى تعديل هذه القرارات حتى تأتي نتائجها وتداعياتها متوافقة مع المستقبل الذي نريده هذا وإن حصل ذلك فإننا نكون قد شاركنا بشكل إيجابي في صنع المستقبل بدلاً من أن ننتظر في سلبية مستقبل تأتي به الأقدار أياً كانت صورته أو بدلاً من أن نقنع أنفسنا بالتأقلم أو التكيف مع ما قد يقع من أحداث مستقبلية . وللدراسات المستقبلية عدة فوائد من أهمها القدرة على اكتشاف المشاكل قبل استفحالها والاستعداد لمواجهتها أو التقليص من مخاطرها وتوضيح نقاط القوة الكافية في المجتمعات مما يمكنها من تحقيق ما تصبو إليه من تنمية مستمرة . ومن المؤسف حقاً أن بعض مؤسساتنا بعيدة كل البعد عن هذا المجال حيث لا يزال الاعتقاد السائد أن الاهتمام بالمستقبل لا يحتوي على فائدة كبيرة فالمستقبل مثل الماضي والأمور سوف تتحرك وتتغير مثلما تحركت في الماضي ، وهو استنتاج خاطئ فالقضايا متغيره والتحديات مستحدثة وجديدة والفرص التي يمكن استثمارها من قبل المؤسسات والمجتمعات والبناء عليها كمحطات دعم إضافية أصبحت أوسع من أي محطة تاريخية أخرى والتحديات التي تواجها الدول والجماعات البشرية أصبحت أكثر قوة من أي وقت مضى . ويمكن القول إن المؤسسات والقطاعات التي تهتم بتحقيق أهدافها وتنميتها وتطويرها واللحاق بركب التطوير هي تلك التي تعني أكثر بالاهتمام بالمستقبل وقراءته من خلال الدراسات والتحليلات المستقبلية وفق خطط علمية ومنطقية حيث بات من الضروري أن نواكب التطور العالمي السريع في مختلف مجريات الحياة أو بمعنى آخر لقد أصبح من الضروري أن نجاري سرعة المتغيرات والتحولات الإقليمية منها والدولية في مختلف نواحي الحياة وإلا فإن توقفنا لفترة زمنية بسيطة سيعني أن نتخلف عن الآخرين لسنوات طويلة في تلك النواحي . والله من وراء القصد ،،