يوم أن وحد الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود – طيب الله ثراه – كيان هذا الوطن العزيز، كان المجتمع في طبعه وطبيعته ينزع في معظمه نحو التمسك بمعتقد وعقيدة القبيلة، ومن لم يكن يجد له حيزاً في فلك هذه المنظومة القبلية العصبية، كان ينضوي تحت مظلة المعترك الاجتماعي الحضري، فيما كانت النزعة القبلية تفرض نفسها جزءا مهما ورئيسا في التركيبة السكانية، وجزءا مهما أيضاً في منح القيمة الشخصية والاعتبارية لأفرادها. د. الشريدة: يجب تجاوز كل ما يمكن أن يخرق وحدتنا ووسط هذا البحر المتلاطم من بقايا العصبية القبلية التي كانت تشهد ذروة تحزبها المحمود تارة والمذموم تارة أخرى، خاصة قبل توحيد هذه البلاد بفترات طويلة، وفي أثناء ملحمة توحيد هذه البلاد، وعند بناء وتشكيل مؤسسات الدولة التنظيمية والمنظمة لواقع الحياة العامة والخاصة، كان هناك نوع من القناعة عند القلة القليلة جداً أن عصبية القبيلة وتحزبها حول ذاتها ونطاقها الجغرافي حيث ماؤها وكلاؤها ومرتع مواشيها قد بلغ ذروته، وأن هناك حالة من التحول نحو النطاق الأعم والشمولي بدأت تلوح. د. أبا الخيل: نحن تحت مظلة واحدة اسمها «الوطنية ومع مرور الوقت وبشكل تدريجي سادَ لدى الأغلبية الغالبة والساحقة من أبناء القبيلة أن الصورة التقليدية والنمطية لم تعد قابلة للتعايش مع هذا الواقع الاجتماعي الصحي الجديد، بعد توحيد شتات هذا الوطن وبناء مؤسساته وفرض الأمن في كل ركن من أركانه. بذل الإنسان وعطاؤه يقول "د. خالد الشريدة" أستاذ علم الاجتماع في جامعة القصيم: إن الانتماء حاجة فطرية ومسلمة اجتماعية، بل إن الإسلام أشار إلى هذا المعنى في قوله تعالى: "وقال الذي اشتراه من مصر"، فنسب الرجل إلى دولته، وهذه حقيقة مشاهدة في تاريخنا، فمن العلماء من ينسب لبلده مثل "البصري" و"الطنطاوي" و"البخاري" و"النجدي"، مضيفاً أنه إذا ما تحدثنا عن انتساب الإنسان لقبيلته وانتمائه فإن هذا المعنى الموروث لا يعني شيئاً أمام بذل الإنسان وعطائه وقدراته ومهاراته، ذلك أن الاجتماعيين يشيرون إلى ضعف تأثير المعيار الأول في مقابل الثاني في الحياة المدنية إلى الحد الذي يمكن أن يغيب فيه، مشيراً إلى أنه حينما يشعر الإنسان بأن هناك معوقا لحركته المدنية ولربما لاندماجه فيها واستفادته منها لسبب يمكن أن يتجاوزه إلى ما هو أهم منه، فإن ذلك يعكس مرونة ايجابية تتجاوب مع اشتراطات الحياة المدنية، موضحاً أن انتساب الإنسان لأصل قبيلته يعود لتقديره الشخصي، وما يرتبط في ذلك من ظروف شخصية أو اجتماعية، ونحن نعلم أسراً كبيرة يعود نسبها إلى قبائل معروفة ولا يتم الإشارة في هويتهم إلى ذلك. يجب أن تذوب وأضاف أن الأهم من ذلك كله هو أننا ننتمي لهوية سعودية واحدة وموحدة يجب أن تنضوي كل المعاني تحتها، ذلك أن هذه الهوية لها مكانتها وتقديرها محلياً ولها أثرها وأحكامها من خلال الجواز عالمياً، وكل الانتماءات الصغيرة يجب أن تذوب في مقابل الانتماء للوطن ووحدته، بل إن هذا المظهر هو من مؤشرات التقدم لدى دارسي العلوم الاجتماعية، لافتاً إلى أننا أحوج ما نكون اليوم في هذه الظروف العالمية والإقليمية المشكلة إلى تجاوز كل ما يمكن أن يخرق وحدتنا ووطنيتنا، بل وما يشعر باختلالات داخلية قبلية أو فكرية أو مذهبية، وهذا ما أشير إليه بمفهوم الاتساق الوطني، حيث لا يعني القضاء على التفرد والخصوصية وإنما يعني تذويب الحسابات الشخصية وكل ما يخرق وحدتنا الوطنية، مبيناً أن استمرار هذا المعنى (الاتساق) يعني تدعيم الوجود الوطني في قالب عصري يسهم بالنهوض بواجبات المواطنة من خلال بيئة حياة مشتركة. القبيلة والنظام ويقول "د. خالد أبا الخيل" الأستاذ المساعد في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية في جامعة القصيم: إن المواطنة الحقيقية لأي شخص في داخل هذه المنظومة الوطنية لا تنبع من خلال تفعيل النزعة القبلية، بل إن المواطنة الحقة أن يدرك الجميع أنهم تحت مظلة الهوية الوطنية بكل أبعادها ومتطلباتها، مضيفاً أن نظام "القبيلة" يشبه في السابق ما يمكن أن نسميه اليوم بنظام "الحكم الذاتي"، ولهذا السبب يمكن لنا أن نلاحظ أن دور القبيلة يتمدد في المجتمع بنفس المساحة التي يتقلص فيها دور النظام، وهذه الملاحظة تضعنا أمام إشكالية مهمة، وهي أن تمدد القبيلة دائماً ما يأتي على حساب النظام، وهذا التقابل بين "القبيلة" و"النظام" يعني وجود تناقض حاد بين الاثنين، ولأجل هذا يمكن أن نتفهم الفلسفة التي تقول: "ولادة الدولة تعني موت القبيلة"، والمراد من ذلك طبعاً موت قوانين القبيلة وأعرافها المستقلة، وهذا صحيح إلى حد كبير، ذاكراً في هذا السياق قول النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب الناس في عام الفتح: "يا أيها الناس، فإن الله قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها، يا أيها الناس، الناس رجلان، مؤمن تقي كريم على الله، وفاجر شقي هين على الله ثم تلا: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى"، والحديث رواه ابن خزيمة وابن حبان. ويمكن أن نلاحظ هنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يؤسس لنظام الدولة المسلمة الكبرى أول ما بدأ قال: "إن الله أذهب عنكم عيبة الجاهلية وفخرها"، وهذا يعني بكل تأكيد أن نظام الجاهلية الذي يتأسس على الافتخار بالقبلية والانتماء إليها وجعلها مناطاً للموالاة والمعاداة، يناقض مفهوم الدولة المسلمة بمعناه الكلي. التعارف وليس غيره وأضاف أن هناك ثمة إشكالات كثيرة يخلفها النظام القبلي على أفراده من أبرزها: تعطيل فاعلية الفرد، بحيث يجعله دائماً في حالة استقبال مطلق لكل ما يصدر عن القبيلة من دون أن يكون لديه أدنى فرصة للمراجعة والتفكير، ومما يزيد هذا الإشكال تعقيداً إذا أدركنا أن أنظمة القبيلة وأعرافها عادة ما تكون كلها على مستوى واحد من حيث الوزن والتأثير ومن ثم التداعيات والنتائج، وهذه إشكالية أخرى تجعل الفرد في حالة دائمة من عدم الاستقرار والتوازن، موضحاً أن الشارع حينما أوجد القبيلة ليس مقصوده من ذلك جعلها بديلاً للدولة أو السلطة، أو جعلها محلاً للافتخار والتفاضل، ويمكن فهم المراد من قول الله تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، فالمقصود الكلي إذن من إيجاد الشعوب - وهي رؤوس القبائل - هو التعارف وليس غيره، والتعارف كما يقول الإمام "مجاهد" هو أن يعرف الناس بعضهم بعضاً، فيقال فلان بن فلان، وحتى لا يظن أحد أن هذا التعارف يمكن أن يكون محلاً للتفاخر قال سبحانه محدداً المعيار الحقيقي للتفاضل بين البشر: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، فلا تفاضل بين البشر كلهم إلا بهذا المعيار.