لا أنكر أبدا أنني عادة ما أجعل من العيد حدا فاصلا أراجع فيه السنة الماضية كلها بخيرها وشرها وأستعيد قول المتنبي "عيد بأية حال عدت ياعيد". أحاول فيه أن أتبين كيف تعاملنا مع مشاكل السنة الماضية وماذا أعددنا للسنة القادمة خصوصا وأن السنوات القادمة ستكون بداية الدراسة بعد رمضان الأمر الذي يعني أن العيد سيكون مقدمة لبدء نشاط العام واستعادة الحيوية من جديد. لكنني على ثقة أن هذا العيد يحمل هموما كبيرة لكثير من الناس الذين مازالوا يترقبون قبول أبنائهم وبناتهم في الجامعة كما أنه يحمل هموما أكثر لمن تخرجوا ولم يجدوا عملا يسترهم فتخرجوا للبطالة بعد أن كانت "مكافأة الجامعة" تقيم بعض أودهم. أخلاق العيد تلحّ علينا للبحث عن حلول فهي التي ستصنع فرحة العيد، فقد كنا في السابق نتلمس ونتحسس حاجة الجيران والأقارب فأصبحت حاجتهم الآن فوق قدراتنا العيد هذا العام والاعوام المقبلة سيكون مجالا للحديث حول استمرار المشاكل التعليمية والتوظيفية التي يبدو أنها لن تحل، فكل عام يزداد "الشق" مع بقاء حجم "الرقعة" كما هو. لكنني هنا أتذكر "أخلاق العيد" التي كانت جزءا من المنظومة المدينية البسيطة التي كنا نحياها قبل عقود، تلك المنظومة التي كانت لها همومها البسيطة لا كما نعيشه اليوم، فلم يكن بيننا عاطل إلا ما ندر ، ولم يكن أحد ابنائنا أو بناتنا يواجه مشكلة في الحصول على مقعد في الجامعة بل إن كل الطرق مفتوحة أمامهم لكن في نفس الوقت كانت حياتنا بسيطة وأحلامنا ليس لها حد. لكنه التخطيط "أعاذنا الله من شروره" فقد كنا بحاجة إليه ويبدو أنه قلب ظهر المجن لنا، فلم تنفع اي خطط وضعناها (رغم أننا سبقنا كل دول الجوار وربما كل الدول العربية في تبني الخطط الخمسية منذ عام 1970م، ورغم أن الدولة تنفق بسخاء منقطع النظير على هذه الخطط، فقد رصدت للخطة الخمسية التاسعة القادمة أكبر ميزانية في المملكة). ويبدو أن العلة ليست في التخطيط الذي يتعارض مع الفوضى ومع "الفساد"، فهو مجنيّ عليه مثل كثير من الاحلام التي جُني عليها خلال العقود الماضية. العلة تكمن في "الأخلاق" وهو موضوع يدور حوله كثير من الكلام، فالاخلاق تتعارض بشدة مع الفساد وتدفع إلى النظام بل والتضحية من أجل النظام. فالاكتفاء باستصدار النظام وتركه بين يدي من لايحسن تطبيقه أو لايكترث في الأصل بتطبيقه لا يجدي ولا يصنع أخلاقاً مجتمعية يحترمها ويطبقها كل الناس. فالناس ترى أن كل فكرة جميلة تتحول إلى مصدر "تخريب" فمثلا هيئة الاستثمار التي كان يفترض أن تساهم في بناء الاقتصاد الوطني صارت تصرح لكل مستثمر حتى إننا صرنا نتوقع أن نرى المستثميرين الاجانب ينافسون بائعات البسطات في الأسواق التقليدية. أما تأثير هيئة الاستثمار على العمل المهني فحدث ولا حرج، فلم يعد هناك حاجة لشريك سعودي لإصدار رخصة مكتب هندسي فصارت المكاتب الهندسية الكبرى تفتح مكاتب وتأتي بمهندسين درجة رابعة لمنافسة المهندسين السعوديين، كل هذا يحدث تحت سمع وبصر المسؤولين ولا أحد يحرك ساكنا. إنني أتوقع قريبا أن نجد كثيرا من المهنيين السعوديين في كل المجالات الحيوية على رصيف البطالة، فالتنافس هنا غير عادل ابدا، ولو حاول أي مهني (مهندس أو طبيب) سعودي فتح مكتب في كندا، على سبيل المثال، فسوف يواجه صعوبات (شبه مستحيلة) يعرف من خلالها معنى حماية المهنة والمحافظة على "المعرفة المحلية" واقتصادياتها، لكننا أمام حالة تاريخية صعبة أن تكرر، نشاهد فيها الأحلام الكبيرة تهدم عيانا جهارا ولا أحد يحرك ساكنا. أخلاق العيد تلحّ علينا للبحث عن حلول فهي التي ستصنع فرحة العيد، فقد كنا في السابق نتلمس ونتحسس حاجة الجيران والأقارب فأصبحت حاجتهم الآن فوق قدراتنا، لأننا لانستطيع أن نخوض مع الخائضين، فتحولنا إلى مهمشين ليس لنا أي تأثير ولم يعد الأقارب والاصدقاء يشاركوننا فرحة العيد لأننا تحولنا إلى مجتمع "مصالح"، فإشكالية "الأخلاق" تنبع من القاعدة الاجتماعية أو هي تركز على بناء هذه القاعدة الاجتماعية الأخلاقية، كما أن الأخلاق ممارسة وعمل حقيقي يصنع القدوة العملية التي يمكن مشاهدتها، ولا يعترف بالوعظ والارشاد والشعارات، لذلك فقد تناقصت "أخلاق العيد" حتى إننا لم نعد نشعر بها ونحن نجلس في مجالس العيد نحاول أن نستنطق تلك الابتسامة العفوية التي كانت تملأ وجوهنا ونفوسنا، صرنا نشاهد الشاردين بأذهانهم والمتصنعين للفرح، فهموم الدنيا أكثر من تحملنا، رغم أننا ندعو كل يوم ونقول "اللهم لاتجعل الدنيا أكبر همنا"، لكنه الهمّ، والعياذ بالله، يتسلل للنفوس أسرع من تسلل الغبار إلى داخل بيوتنا. أمضينا أربعة عقود ونحن على اعتاب الدخول في العقد الخامس من الخطط الخمسية ومازلنا نتخبط في كثير من الأمور والقضايا ومازلنا نبحث عمن يخطط للخطط الخمسية التي لا تصنع الحلول رغم أنها خطط محكمة وموضوعة حسب حاجتنا الفعلية وتنفق عليها الدولة بسخاء. المشكلة هنا "أخلاقية" أو ربما هي مرتبطة بالكفاءة، أي كفاءة من ينفذ هذه الخطط، فنحن نواجه عالما يتنافس على الكفاءات بينما نحن مازلنا نتنافس على "الولاءات"، وبالتالي فإن من يعمل على تنفيذ هذه الخطط لا يملك المقدرة على ذلك وبالتالي تبدو مظاهر الفساد المتعدة وغير المتعمدة ظاهرة ومؤثرة. ربما تحثنا "أخلاق العيد" على التفكير بجد في نظام إداري مختلف عما نجده عندنا، فقد جربنا هذا النظام واكتشفنا سوءه وعدم جدواه فلماذا لا نبحث عن نظام إداري يوظف قدراتنا الضخمة وإمكاناتنا البشرية الكبيرة التي لو أحسن التعامل معها لصنعت حراكا اقتصاديا عملاقا؟ نملك الكثير من الامكانات ونحتاج فقط إلى الإخلاص، وحتى نستعيد فرحة العيد ونصنع تلك الابتسامة البسيطة الخلابة نحتاج أن نتخلق بأخلاق الرسول وخلفائه المهديين من بعده فقد كانوا يحثون على مكارم الاخلاق، والتخطيط، أي تخطيط، بلا أخلاق لايمكن أن يكون مثمراً ولا يمكن أن يؤتي أكله.