عندما كنتُ طفلاً كنت أتصور أن للعيد شكلاً وهيئة وأنه شيء فخم وفاره وجميل، وأن له لباساً زاهياً ملوناً بجميع ألوان الطيف..!! وأنه يأتي للناس، بالملابس، والأحذية الجميلة.. ويأتي إلى الأطفال في ليلة العيد فيملأ جيوبهم بالَحب والقريض والملبّس وبقية أشكال الحلوى!! ونمت شخصية العيد الاسطورية هذه في مخيلتي ولم أتخلص من صور ورؤى الطفولة تلك نحو الاستبشار بالعيد والاحتفال بمقدمه حتى بعد ان أصبحت رجلاً. ولعل الغربة التي عشتها طويلاً كثفت وعمقت من الاحساس بالعيد إلى درجة أنني كنت أنتظر مجيئه كحبيب غائب أو عزيز أثير أو كشيخ من آبائي سيحل ضيفاً عليّ.. لذا فإني استقبله بشيء من الوجد والقلق والشغف. وفي سنين الغربة كنت أنمي هذا الاحساس في نفوس أولادي فأجعلهم يستشعرون مقدمه ويستعدون لاستقباله، فكنت آخذهم وهم أطفال صباحاً إلى أكبر مسجد يجتمع فيه المسلمون والعرب وتقام فيه الصلاة ويختلط فيه الناس ويتبادلون التحايا، والمودة، ويتقاسمون الفرح ، وكنت أشعر بالحزن حين يمر العيد عليّ وحيداً.. ولن أنسى ذلك العيد الذي مرّ بي في ولاية تاكسس حيث كنا في هيوستن، وكنت عزباً والزملاء ذهبوا في رحلات جماعية مع عوائلهم.. أما أنا فقد ذهبت إلى مدينة «جالفستون» وهي ميناء بحري قريب من هيوستن وسكنت في أحد الفنادق المطلة على البحر.. وكان الوقت شتاء وقد وجدت الفندق شبه فارغ.. وهبت علينا رياح وأعاصير، وكان الجو داكناً والبحر حزيناً.. وكانت غرفتي تطل على البحر فلم أكن أسمع الا صرصرة الريح وصفيرها، وصياح النوارس ووقع المطر وتلاطم الأمواج، واحتكاك قوارب الصيد ببعضها.. وكنت إذا نزلت إلى بهو الفندق، لم أكن أرى إلاّ مجموعة من العجائز وكبار السن، يقرأون الجرائد في ملل.. أو يستند بعضهم على كتف الآخر وهم على مقاعدهم في كسل وتثاؤب وخمول.. بينما كنت مضطرباً قلقاً وكأنني في قفص.. لذا فقد أمطرت أهلي وأقاربي، وأصدقائي في المملكة بالمحادثات الهاتفية.. كي أخرج من عزلتي، وأشعر بانتمائي الوجداني بالعيد. واليوم وحين عدت إلى الوطن بعد ربع قرن من الاغتراب، وجدت ان العيد الذي كنت أعرفه وأبحث عنه قد رحل!! ولم يبق منه إلاّ أطلاله وآثاره!! أصبح العيد روتينياً يتجمع فيه الناس، وكأنهم يتدربون على مهنة الدوران.. يسلمون ببرود ويجلسون ببرود ويغادرون ببرود وكأن العيد هو مجرد أداء واجب يأتون للتخلص منه.. ثم يعودون لاستكمال حياتهم. بهذا الاحساس الشمعي المتكلس يمارس كثير من الناس التعايش مع العيد.. وبالطبع فإن هذا ليس عيداً، وإنما هو مظهر من مظاهر التكلف، والمجاملة الاجتماعية إلى درجة أننا قد نخفي الصدود. أيها السادة ما أحوجنا إلى ان نستحضر العيد «الرمز» للمحبة والألفة، والرحمة والتآخي وصفاء النفوس نغسل به ذواتنا وأرواحنا بماء النقاء والسلام والصفاء واخلاص المودة والرحمة فيما بيننا. أيها السادة.. علينا ان نجعل من العيد محطة نستريح فيها من أعباء ووعثاء سفر الكد ، ونمسح فيه عن أنفسنا غبار معارك الحياة اليومية المضنية.. نستروح فيه رائحة الطفولة ونفحات الأهل والأمهات والآباء، رائحة الأرض وعبق التقوى والإيمان.. بذا نعيد للعيد وجهه الجميل، نعيد للعيد نكهته وطعمه وجلاله وإطلالته المفرحة خوفاً من تشوه صورته الجميلة وكأنه "بيت عاتكة" التي قال فيها الشاعر : إني لأمنحك الصدود وإنني قسماً إليك مع الصدود لأميل إن نحن فعلنا ذلك فسوف نعيد العيد من غربته مشرقاً وضاحاً ووسيماً جميلاً رائع الطلعة، رائع الحضور.. جعل الله أيامكم أعياداً ومواسم فرح.. وأعاد عليكم العيد بكل ما تحبون وتأملون من خير وعافية ومسرة وأمل مشرق بالفأل وكل ما هو مفرح وجميل.. وكل عام وأنتم وجميع من تحبون في ألف خير،،، وألف هناء