من المثير معرفة أن القصيدة العربية كانت دائما تتميز بروح قادر على التجاوز وهضم الجديد وتمثله، حتى وإن تحت شعار أو تسمية غير التسمية المعتادة كقصيدة أو كشعر. و من يقرأ في كتاب المواقف والمخاطبات للنفري أو غيره من كتب الصوفية مثلا يرصد تاريخا مغيبا في ثقافتنا العربية وفي مسيرة القصيدة العربية كله لشكل النثر فيها. صحيح أن لقصيدة النثر العربية الجديدة مرجعية غربية وفقا للوعي النقدي الراهن، ولكن الصحيح أيضا أن هذا الشكل من الشعر لم يكن غريبا في محضه بغض النظر عن المصطلح الذي يندرج تحته. والذي أعتقده فعلا أنه لا ينبغي لقصيدة النثر الناجحة مثلا أن تكون سائدة أو مألوفة، فكل قصيدة تريد أن تكون قصيدة متجاوزة عليها أولا أن تفكر في تحقق لا يداهن السائد ولا يتوافق مع المألوف. وعلى كل شاعر أن يخلق قصيدته الخاصة وفقا لتلك الشروط الخاصة على حده أيضا سواء أكانت قصيدة عمودية أم قصيدة تفعيلة أم قصيدة نثر. واذا ما آمنا بقدرة أو ميزة القصيدة العربية في التجاوز سوف نتأكد من قدرتها على التحقق في أي إطار يختاره شاعرها لها.. أما الذين يقولون بأن القصيدة العمودية غير قادرة على الصمود أو أن قصيدة التفعيلة استنفدت أغراضها الجمالية والشعرية، فهم يحكمون منذ الآن على موت منتظر لقصيدة النثر، وهم لا يعلمون أنهم بذلك انما يشتغلون بالبحث عن تسميات للشعر وإطارات جديدة للشعرية دون أن يشتغلوا على كتابة القصيدة الجديدة نفسها، وهم ينشغلون بذلك عن الوظيفة الاهم وهي القدرة على الابداع..محض الابداع الشعري. طبعا هذا لا يعني أنني أستسيغ أن يكتب شاعر ينتمي للقرن الحادي والعشرين قصيدة تنتمي بروحها ومفرداتها وطريقة بنائها الشعري وقضاياها إلى زمن امرئ القيس أو المتنبي بحجة أنه يحافظ على عمود الشعر، ولا يعني أنني استطيع قراءة قصيدة مكتوبة الآن على طريقة السياب أو صلاح عبد الصبور...رغم انني سأظل دائما أقرأ لامرئ القيس والمتنبي والسياب وعبد الصبور، ولكن قراءاتي هذه تتم على هامش وعيي بالزمن الذي انتجت فيه هذه القصيدة طبعا. وهذا يعني أن للجميع حق كتابة قصيدتهم وفقا للشكل الذي يستسيغونه، ويجيدونه ويجدون أنه الاقدر على التعبير عن شعريتهم دون أن يعني هذا تجاهلهم لتفاصيل الزمن الذي يعيشون في خضمه.