اسمحوا لي ان أكشف سراً صغيراً حرص الدكتور غازي القصيبي رحمه الله أن لا يطلع عليه أحدا. وعدته بكتمان السر يوم ان كنا نتحادث سوية في مكتبه بوسط لندن عندما كان سفيرا لنا هناك. لما سألته عن سبب إبقاء الأمر طي الكتمان، لم أقتنع بتفسيره حينها، لكنه اكتفى بالقول: سيعرف الجميع يوما. وها قد أتى اليوم الذي أكشف فيه السر الصغير، وهو أن الدكتور القصيبي رحمه الله كان ولأكثر من خمسة أعوام متصلة هو من يكتب صفحة العجوز في مجلة "سيدتي". ولمن لا يعرف هذه الصفحة أقول انها عبارة عن اسئلة ساخرة لاذعة للقراء يجيب عليها بطريقة اكثر سخرية ولذاعة شخص مجهول يحمل اسم "العجوز". إنها صفحة تجد الكثير من القبول والتواصل مع الجماهير لخفة دمها وظرفها وتنوعها. كان القراء يعتقدون ان مثل هذه التعليقات التي تأتي من العجوز تصدر عن إنسان فكاهي أو سطحي، دون ان يعلموا ان من يعلق عليها هو أديب وشاعر وسفير. وقد كان محتما عليه ان يكون بهذه الصفات كي تنجح الصفحة التي أذكر انني عندما كنت رئيسا لتحرير "سيدتي" اعتدت ان أستلم قرابة خمسين رسالة يوميا ترتبط بهذا العجوز الذين عجز كثيرون عن تقدير شخصيته الحقيقية. كنت أعتاد ان أرسل للدكتور القصيبي رحمه الله برسائل القراء ليعلق عليها قبل ان يعيدها لي جاهزة بخط يده. بعض تعليقاته لم تكن تتجاوز كلمة أو اثنتين، وأطولها لم يتجاوز الثماني أو تسع كلمات. لكني كنت أضحك منها من عمق العمق، وأحس بمقدار الحزن فيها في الوقت ذاته. كان الاتفاق ان أدفع له بالرسائل عبر البريد الخاص وأكتب من الخارج: يسلم شخصيا للدكتور غازي القصيبي. ذات مرة كتبت عليها اسم السفير دون ان أشير الى ان تسلم له شخصيا، يداً بيد. بعد يومين عادت رسائل القراء وقد علق عليها الدكتور غازي كعادته، لكنه أضاف قصاصة صغيرة أرسلها لي بعد أن كتب عليها: العجوز لم ينس.. ونسيت أنت. اليوم أكشف سر ما حاول الدكتور غازي رحمه الله أن يخفيه، ليس خروجا عن إرادته ورغبته، أو انتهاكا لحرمة اتفاق قديم بيننا، لكن لقناعتي بأنه كان سعيدا بتواصله اللا مباشر مع القراء، ولو كنت استشرته اليوم عن إذاعة السر لما تردد، خاصة وانه قد أعلن لبعض أصدقائه ان العجوز كان دورا أمتعه كثيرا. لم يكن الدكتور غازي أديبا وسياسيا بقدر ما عرفته ساخرا من الحياة حتى القمة، وعميق الحزن حتى القاع. ولمن يريد ان يدرس فكر القصيبي الساخر والواقعي والحزين في آن، عليه ان يقرأ كل ما جاء في صفحات عجوز سيدتي ابتداء من عام 1999 وحتى 2005 ليكتشف جانبا من غازي القصيبي لا يعرفه أحد.