معذرة يا مخلد، فلقد هرمنا.. هرمنا يا مخلد. ومعذرة يا مخلد، أتقدم بها كما سبقتني إليها حين قلت من قصيدة عصماء: من يَمّكم يا الطيبين اتعذّر تَدْرون راع الحب قلبه رهِيفِ فلقد أحببت مطلق مخلد الذيابي منذ دوى برنامجه «من البادية» في الآفاق، فكان رائد ابراز الشعر البدوي عبر الأثير، ومنذ كان والده مخلد رحمهما الله يعمر مجالس البادية في مكةالمكرمة بعيون الشعر بدارة صقر العريفي ودارة ابن قابل رحمهما الله، ودارات عشاق شعر البادية ومروياتهم. وقرأت قصائدك ورسخ في ذهني أن مخلد الذيابي ومخلد القثامي شاعر واحد، وأضلني الشعر أن أتنبه إلى إشارة محمد سعيد كمال بأنك توفيت عام 1337ه فلم يكن يعنيني غير الشعر، وحينما اخترت قصيدة «عند باب الحرم» لم أكن أعني غير شاعر القصيدة، وها أنا يا مخلد التفت معتذرا ولم أقفِّ كما فعل من هو أغلى مني لديك – ولك العذر في ذلك – حين قلت: يا ليت خلّي يوم قَفّى تعذّر ما اقفى على السفهان كنّه معيفِ لقد رحلت يا مخلد قبل مولدي وشهدتُ سمّيك الذيابي وابن عمك، ولم ينس الكمال تدوين عام وفاتك وهذه فضيلة أخرى في التوثيق بعد فضيلة التدوين التي كان من أوائل من اهتم بها، مهما خانته قواعد الاملاء وتلقيه بعض مفردات الشعر وجمله وله العذر. لكم تمنيت يا مخلد أن تشهد لجة المنتديات والمهاتفين دفاعاً عن قصيدتك لتضيفها إلى لجّات تبرمت منها بل شبهت بها حالة الفراق فقلت: يا لجّتي لجّة مع الغِبْشة الذيب ذيب يجر عواه بالصوت قَنَّاب ويا لجّتي لجة نحور الشراريب لجة نحور الحج مع كل شرّاب ويا لجتي لجة محالٍ على شيب شيب اعواده عفّتوهنه صعاب تقفي وتقبل به طويل المجاذيب في غَيْلم طوله ثمانين بحساب ويا لجتي لجة قطيعٍ مناهيب في كنّة الجوزا وحاديه ملهاب الما بعيد ويَرْطعِنّ المغاريب البير مُقْطع والحدادير هِيَّاب على عشير سَدْ ذيك المراقيب «عسلج» وضلع «هدان» و«كبّاد» و«نياب» نعم يا مخلد لقد لجوا دفاعاً أفرحني لأنك تستحق ذلك الدفاع، وأفرحني أن لجهدي المتواضع متابعين، مما يعزز الدفاع عن الأدب الشعبي ذائقة السواد الأعظم من أبناء الجزيرة العربية ومستودع تأريخها وأخبارها. واسمح لي أن أذكر مطلع هذه القصيدة التي استخلصت من بين تلك اللجات التي لم تعد حاضرة زمننا: مخلد بدا حَيْدٍ طويل الأشاذيب هيّض عزاه وكل ما بالحشا جاب ورغم اللجات التي شهدت مولد القصيدة ورغم معاناة الوداع غادرت مرقابك تحمل إبداعاً رائعاً عاش أكثر من مائة عام. وأنا يا مخلد لم أعش في البادية ولا أعرف من تقاليدها غير ما تحمل إلينا الكتب عنها، ولكني سأحاول تقريب بعض التشبيهات، فأنت في مرقاب السبور أو مراكز الدفاع والاستطلاع في زمن الخوف، تستحضر رؤى رحيل عشير يغادر المضارب عبر الفيافي، وتتذكر الأمكنة التي شهدت غدوه ورواحه، لأنها مشاهد ماثلة أمامك وهو يغادرها ولا يلتفت خشية العبرات ولكن لسان حاله – بلا شك – يقول: وتلفتت عيني فمذ خفيت عني الطلول تلفت القلب وأنت تقول له: في جيرة الله يا شريف الخراعيب يا نافلاً بالزين تلعات الارقاب واللجة الأولى هو طنيب أو عواء الذيب وفد بهره الصباح ولم يعد لجراه بصيد، رغم سهر الليل وقطع الفيافي بحثا عن طعام، ولم يبق لنا اليوم من معاني القنيب غير ما يطلق الجدات على بكاء الأطفال المتجاوز المدى المعهود، أو الثاكل التي فقدت عزيزاً. وأما لجة نحور الشراريب فهي هدي الحج التي يزدحم بها المذبح في منى، ويتسابق إلى جرها القصابون دون رحمة، وولاتها يزدحمون من ورائها خشية فوات الأجر. أما لجة المحال فهي أدوات متح الماء من الآبار العميقة، فأصوات المحال ورغاء الإبل وثغاء الشياه وغناء السقاة ضجيج يصم إذن الشاعر المفارق، ولنا أن نتصور المسافة التي تقطعها هذه الدواب المتعانقة بالأعواد والحبال، وعصا الساقي تتلوها مسافة تصل إلى مائة وستين قامة جيئة وذهاباً كما يقول الشاعر: تقفي وتقبل به طويل المجاذيب في عَيْلمٍ طوله ثمانين بحساب والقامة تقارب المترين والعيلم هو البئر، ولجة المحال لها موسيقى جميلة تطرب الزراع، لكن ما عناه الشاعر هو ضجيج الموارد محالها وحلالها وورادها. أما لجة القطيع المناهيب فهي المواشي في فصل القيظ وفي برج الجوزاء بالتحديد، حين تشتد حرارة الصيف وتحدو المواشي نحو الموارد، لا سيما عند شح الآبار فلا تمتلئ الدلاء تلقائياً وإنما يتطلب ذلك من يحدر إلى أعماق البئر ليغرف الماء لملء الدلاء، ومن ذا الذي لا يهاب النزول إلى عمق يتجاوز المائة متر؟ فالمواشي تلج تطلب الماء. لقد نقلت لنا يا مخلد ملامح زمن لم يشهد منه مخلد الذيابي ما شهدت، ولكنه رسوخ الذيابي في ذاكرتي صرفني عن التحري رغم وضوح المعلومة، وما كنتُ أول من صرفه حب الشعر عن التحري كما بررت لوقوعك في شرك الحب حين قلت: العشق ما عَذْرب شيوخ الاجانيب ولا عذرب الدوشان عَرْبين الانساب ولا عاب اخو ريّا على الفطّر الشيب اللي يفك الجاذية وقت الانشاب ولا عاب ابن هندي مروِّي المغاليب ولا عاب سلطانٍ وابا زيد وذياب صدقت يا مخلد لم يعذرب الحب إلا من كان حبه غير الحب، ولكنه عذربني وصرفني عن التحري، فجيش أحبابنا جيوشهم للتصحيح. يا مخلد ما كنتَ إلا شاعراً مبدعاً، ينتقي المفردات المعبرة، والجمل الشعرية المؤثرة، ولكم تلاعبت بالجمل الشعرية تلاعب المبدع، وأبدعت قافية ثالثة ورابعة في البيت الشعري الواحد: صدر الجثامي فاح/ من زَوْد الاقراح كل من الشعار عنده هقاوي والى بدعت القاف/ ماني بزهّاف بيطار في رد المثايل قصاوي لولاك يا الغليون/ لا صير مجنون واني لاْ ظلي بالزرايب خلاوي إلى قولك: يا ناقض المرجود/ يا ليّن العود أنا معك بالذمة ان كنت تاوي وانا هيامي عام/ عام ورا عام ولا يبري الوجعان كود المداوي ياسَمْ حالي سَمْ/ غرسٍ بعد زم بعد شراب الجم غادٍ حناوي قضّوا حصا بيره/ وصكّوا حظيره وماتت معاويده وخلِّي خلاوي يا مخلد لم تعد الموارد كما عهدت ملتقى حميماً ينسي الفتيان جر الارشية، وخوف انهيار المقام المهيف أو الزلل والا نزلاق مع ميح الدلاء، ومن عهد تلك المواقف التي نقلت إلينا من ملامحها شيئاً يعرف معقبات التشبيهات التي خلعتها على معاناتك: عز الله انه بالهوى جرّني جر جر الرشا فوق المقام المهيفِ وعز الله انه بالهوى كرّني كر كرّ الظوامي للقليب الغريفي يا مخلد ستصاب بالدهشة لو مررت اليوم بكثير من الموارد التي تعهد، لا محال ولا مناحي ولا دلاء، بل ربما وجدت الوراد يتناولون القهوة والتمر إن لم يكن حلوى شامية على غطاء معدني يواري فوهة البئر أو العيلم، ولرأيتهم استبدلوا بالرشاء أنبوباً وصل بالكهرباء، إلى غير ذلك من المشاهد التي تواري رؤى الماضي الجميل، ولم تعد الظوامي تكر بعد أن تعهدت السيارات بنقل الماء إلى مراحها، ولقد أغرى بريق المدينة أهل المضارب ليؤموها ويأخذوا بتقاليدها، ويستقدموا الرعاة والعلف، ولم يعد خلك يمشي بالمشجر واثق الخطوة: يا زين خلِّى وان مشى بالمشجَّر وثويّب سبهان خياطه نظيفِ كيف يا مخلد لو مشى بالجينز لحق لك أن تقول: يا من لقلب يجذبه كل ما مر وليا دله بالعين وازنف زنيفِ زنيف درّاج السواني اذا صر على ثلاثٍ يجذبنّه صفيفِ ولا تجزع يا مخلد إن لم يعتذر عند الانصراف المبكر، فلعل له عذراً وأنت تلوم، أو لعله من جنس «هند» المستبدة «إنما العاجز من لا يستبد». وددت أن أقول لك: اثقل يا مخلد كما كان يزايد: دلاّ يزايدني بشقّرٍ تنثَّر ومحاجر للموت فيها رفيفِ ولكني أصابني ما أصابك من خوف من قوة الأسلحة التي يمتلك: ولي عشير جرّني بالهوى جر ويجرني جَرَّة حزون الخريفِ وفي عينه اليمنى سيوف تسطَّر وفي عينه اليسرى عساكر شريفِ ترى هل هي حزون الخريف أم مزونه؟ لكن ألا ترى يا مخلد أن شكوى مثله لا تجوز؟ أم أنك تشكو ما حل بك من ضنى؟ لقد شكوت إلى كرام حين قلت: أشكي على حمّاسة البن الاشقر أهل النجور اللي ترازف رزيفِ واشكى على لبّاسة الجوخ الاحمر من فوق قُبٍّ ينقلنَّ الرديفِ لقد أحسنت يا مخلد في جلاء خلجات قلوب أبناء الصحراء، وتصوير معاناتهم، وأمتعتنا بنقل ملامح المجتمع وجمال التعبير عنه، وحفظت للأجيال من الصور الجميلة ما عجز عنه الكتاب والمؤرخون، فعاد شعرك مصدراً من مصادر المعرفة، ومرجعا للباحثين والدارسين وأحسنت حين قلت: يا الله يا ربي عليك التسانيع وان ضاقت البيبان بابك وسيعِ وأحسنت أيضا لقولك: أوصيك يا «غازي» ترى الروح تفنى والايام تضحك لك ولا يندري بها تغانم شبابك قبل يلعب بك الجهل تغانم زهرها قبل يابس رطيبها زهرها الكرم والدين والسمت والظفر وخيار الاريا لا تجنب صليبها وليعذرني القارئ الذي تعود على قراءة القوافي الملحقة بمد الروي لاستقامة الوزن، ولعل وضع حركة الكسر بديلا من المد لغير الممدود تعوض عن المد، وتشفع لي لدى القراء، وما ذاك إلا محافظة على بلوغ المعاني إلى المتلقي أينما وجد. وأكرر الاعتذار وأشكر كل من ساهم في التنبيه والتصحيح، ولكل من الشاعرين القثامي والذيابي دوره في الابداع، وإثراء الحياة الأدبية بالروائع، ورحم الله الشاعرين وغفر لهما.