لم يكن موت الأديب الكبير، الدكتور غازي القصيبي رحمه الله موتا عابرا، كما يعبر الموت سائر البشر، ويستلنا واحدا واحدا. ونحن في طريقنا للحياة الآخرة. لقد كان يعملُ وينجزُ حتى والمرض ينخر في عظامه. وكان يلاحق الزمن لعله ينجز آخر ما كتب ويصل إلى المطبعة قبل أن يغادر الدنيا. وتلك ميزة العظماء، يناجزون الموت قبل أن يصل، فلا أمل للفرار من الموت؛ لكنّ الأمل كل الأمل، هو في هزيمة الموت بما أنجز أحدنا قبل أن تتوقف ساعته الزمنية، وغازي القصيبي كان يعمل وكأنه رجال في رجل واحد، فهو السياسي المحنك، والإداري المجرّب، والشاعر الفحل الذي تجري كلماته رقراقة منسابة وكأنها نهر تجري جداوله وتمشي الهوينى. فلا تجد قصيدة واحدة لغازي القصيبي يرحمه الله، إلاّ وتجدها سهلة طيّعة، تصل بك إلى منتهاها في سهولة وطمأنينة، وكأنه يسقيك شربة ما؛ لا أن يقول لك قصيدة عصماء. غازي القصيبي غزا القلوب شعرا ونثرا، شربنا شعره ونحن صغارا، رضعناه هذا الشعر ونحن نرضع حليب أمهاتنا، فقد صافحنا شعره في المناهج المدرسية، ومن ثمّ كانت بعض دواوينه، وأشعاره التي كانت بسيطة بساطة الرجل نفسه، خالية من أي تعقيد. وفوق هذا كله؛ كانت قصائده الوطنية أبان حرب الخليج الأولى، بمثابة سياج يقي من تصدع جبهتنا الداخلية، وتغنى بها الجنود في أرض المعركة. وفي السِّلم، كانت قصائده بعد ذلك أنموذجا للشعر الوطني الجميل. قال لي أحدهم ذات مساء كيف لرجل أن يقود أصعب وزارة في الدولة، يقصد وزارة العمل، ويكتب، ويؤلف، ويجد الوقت لمتابعة حياته الخاصة. قلت له يا صديقي العزيز، تلك ميزة الكبار، ميزة العباقرة، أولئك المنجزين، لن يهمهم الوقت، فسيصلون لمبتغاهم حتى ولو اخترعوا ساعات خرافية تضاف لساعات النهار الأربع والعشرين. وكان القصيبي واحدا من هؤلاء العباقرة. كان القصيبي رحمه الله ساحرا بكل ما تملكه الكلمة من معنى، ساحرا بعبارته الشعرية، وساحرا بكتابته النثرية، وساحرا لهذا الجمهور من الناس الذين أحبوه وهو يهندس الوزارة تلو الوزارة، ويحاول أن يرمي بحجر في البحيرات الراكدة وما أكثرها. لم يبحث يوما عن شهرة ولا عن أعلام؛ لكنها أتت إليه تجرجر أذيالها، كان يتهافت الصحفيون إليه لعلهم ينالون منه تصريحا مهما، حين يقوم الآخرون بالبحث عن الصحافيين، واستمالتهم بشتى الطرق. كان رجل دولة من طراز نادر، قلّما يجود الزمان بمثله. غازي القصيبي، ترحل عن دنيانا إلى الدّار الآخرة؛ فلا نملك إلاّ أن نعزي أنفسنا قبل أن نعزي ذويك في مصابهم الجلل، مستلهمين من سيرتك العطرة أنموذجا للوطني المخلص رحمك الله رحمة واسعة.