لم يتمكن معظم المواطنين مع حلول الأزمة الاقتصادية العالمية من التملص من ضغوطاتهم المعيشية، والتحول من أفراد يعيشون في حالة سلم مع "المال" إلى حالة حرب معه لتوفيره، فجاءت الظروف الاقتصادية الصعبة لتخلق إرهاصات حقيقية في حياة المواطن الذي أصبح يجد الغلاء في كل شيء، مما زاد من معدلات التضخم، وبقيت تلك الأزمة تضغط على الطبقة المتوسطة والطبقة الفقيرة أكثر من غيرهما، فجاءت التحولات المخيفة في محاولة الطبقة الغنية في التمسك بمكانتها في ظل الظروف الاقتصادية المتسارعة فلم يتأثر "هوامير المال" بذلك كثيراً، فيما تحولت الطبقة الفقيرة إلى طبقة معدمة تآكلت في ظل تلك الظروف حتى أخذت تعيش في ضنك العيش ولم تجد مصرعها في تلك الأزمة سوى الطبقة المتوسطة التي تآكلت أو ربما ساحت بين الطبقتين، ومازالت تلتقط أنفاسها الأخيرة.. في هذا الملف "الأزمة الاقتصادية تلتهم الطبقة المتوسطة" تقف "الرياض" على أهم هموم الطبقة المتوسطة وما الذي حدث لها في ظل الأزمة العالمية.. كيف كانت وإلى أين وصلت؟، وإظهار صوت المواطن الذي أصبح الغلاء شبحه المخيف في الحياة الصعبة التي اعتمدت في المقام الأول على المال.. في هذا الملف نقف على معاناة المواطنين في ظروف المعيشة والبحث عن جذور الطبقة المتوسطة ومفهومها، وأين هي الآن؟، وهل تستمر في المقاومة؟، أم أن الطبقة المتوسطة لم تعد موجودة فإما الغنية أو الفقيرة؟، ومسئولية من تذويبها بين الطبقتين؟.. أسئلة وضعت على طاولت التشريح للنظر في صورة المواطنين وظروفهم المعيشية فكانت البداية من واقع الطبقة المتوسطة ذاتها ومن القاع إلى قشور الأزمة. الصويغ: ازداد الفقراء فقراً والأغنياء غنىً..ولم نعترف بالمشكلة بعد! وعلى الرغم من الجهود الكبيرة التي تبذل في المملكة على عدة مستويات اقتصادية متنوعة، إلاّ أن المواطن لا يزال يتطلع إلى المزيد، لذا الحديث عن تآكل الطبقة الوسطى في المجتمع لا يلغي مسارات التصحيح والتقدم التي تشهدها المملكة حالياً، وربما هي المرحلة الذهبية للتغيير إلى الأفضل. المحدود مقرود المواطن "سالم المشرف" يتحدث عن الظروف المعيشية الصعبة التي أصبح يعيشها المواطن، فيقول: هناك أزمة اقتصادية كبيرة أثرت على دخل المواطن بشكل كبير عن السنوات الماضية، ففي السابق كان القليل من المال يكفي لأن يعيش المواطن في رخاء ورغد، وربما استطاع أن يوفر بعض المال لوقت الحاجة، إلا أن الوقت الحالي ألغى تلك الفترة الذهبية وجاءت الأزمة الحالية التي غيرت كثيراً من حال الناس، فأصبح الذي راتبه عشرة آلاف ريال يعاني من الضغوطات والالتزامات كما الذي راتبه أقل، وأصبح الذي راتبه ثلاثة آلاف ريال لايعرف كيف يعيش؟، فهناك إيجار الشقة الذي لايقل عن 12 ألف ريال في السنة وربما كان الإيجار أكثر خاصة مع "تسلط" أصحاب العقار الذين أصبحوا يرفعون من قيمة الإيجار بحجة الغلاء، والضحية المواطن الذي لايعاني فقط من دفع الإيجار المرتفع، بل من الالتزامات الأخرى من ملبس ومأكل وتسديد فواتير والتزامات الأولاد والأسرة التي لاتنتهي، والمشكلة تكمن في المواطن الفقير الذي أصبح يتطلع إلى المواطن الغني، فالفقير يرغب في أن يعيش بطريقة الأثرياء الذين يسافرون ويدخلون أفخم الأماكن ويعيشون بطريقة معينة نظراً لارتفاع دخلهم، فيعاني من الضغوطات المالية والديون، لذلك المرء الذي لايعتمد في معيشته إلا على راتبه الشهري فانه يعاني كثيرا لقول المثل "المحدود مقرود"، فالكثير من المواطنين أصبحوا يبحثون عن أعمال إضافية لسد الحاجة التي يعانون منها حتى يعيشوا في مستوى الطبقة المتوسطة ويحافظوا على هذا المستوى ولا يتحولوا إلى الطبقة الفقيرة إذا مااعتمدوا على راتبهم الشهري، ولذلك يأتي دور وزارة التجارة التي لابد من التدخل للحد من جشع التجار الذين أصبحوا يضاربون في سوق الغلاء ويحصلون على ضعف أرباحهم بسبب استغلال الظروف الاقتصادية الحالية. مواطنون: من راتبه عشرة الآف ريال يعاني..فكيف بمن هو أقل؟ المعيشة تحرق المال! أما المواطن "عيسى الخليفة" فيجد أن المعاناة كبيرة، فقبل ثلاثين عاماً كان لايملك من الدخل سوى ألفي ريال، وكان يستطيع أن يعيش مع أسرته بشكل جيد ويفي بجميع التزاماته المالية، إلا أنه في الوقت الحالي ومع حلول الأزمة الاقتصادية التي حولت حياة الناس أصبح لا يستطيع أن يسابق الغلاء وارتفاع المعيشة الموجود على الرغم من أنه يتقاضى ثمانية آلاف ريال شهرياً، لكنه حينما يدخل إلى السوق لشراء حاجيات أسرته من المواد الغذائية يتفاجأ بأنه أنفق ألف ريال في أشياء بسيطة من الطلبات (الأرز، الزيت، السكر، الشاي، الأجبان،..) وغيرها من الأشياء التي لن تسد سوى حاجة عشرة أيام، خاصة مع عدد أسرته الذي يصل إلى تسعة أفراد حتى أصبح يعاني من المعيشة الصعبة كما الرجل الذي يتقاضى راتباً لايزيد عن ثلاثة آلاف ريال، فالمعاناة واحدة على الرغم من أن راتبه هذا قبل سنوات طويلة كان يكفي للعيش بشكل ممتاز وربما استطاع التوفير لبناء منزل العمر، فالوضع المادي لديه سيئ، خاصة أن مستلزمات الحياة الحالية أصبحت كثيرة وتختلف عن الحياة السابقة، فالأولاد يرغبون في الخروج وتناول الوجبات السريعة وكذلك التسوق وتوفير لهم الحياة الجيدة في المنزل، وربما تزامن ذلك مع وجود بعض الأولاد الذين يدرسون في معاهد خاصة، فالمعيشة أصبحت تحرق المال كما تحرق النار الخشب - حسب تعبيره-، والخمس مائة ريال لم تعد تفعل شيئا في هذا الوقت، خاصة مع تزامن ارتفاع فواتير الكهرباء والهاتف ووجود الجوالات التي أصبح يستعاض بها عن الهاتف الأرضي وغيرها من الأمور التي وضعت الطبقة المتوسطة في موضع الأزمة فحولتهم إلى طبقة فقيرة، والفقيرة إلى معدمة!!. عبيد آل مظف معاناة مستمرة أما "أم راشد" فتطلق تنهيدة كبيرة وتقول: "الجرح بداخلنا كبير، فقد كنا في الماضي نعيش بالراتب التقاعدي لزوجي المتوفى، وقد كانت مستورة والحمد لله، وأنا حاولت أن أعمل من منزلي فأخذت في إعداد أنواع البهارات والعود والطيب وبيعها على نساء الحي وكنت (أترزق الله) في ذلك ويخرج لي دخل بسيط يساعد مع راتب زوجي، فربيت أبنائي الخمسة من ذلك الدخل وكنت سعيدة، ففي السابق كنت أدخل "البقالة" الصغيرة في الحي الذي أسكنه وأشتري بخمسين ريالاً ثلاث زجاجات من الجبن والمربى والبيض وأربع أكياس من الخبز و"التوست" وبعض الأشياء البسيطة التي تكفي لفطور أبنائي لمدة أسبوع، أما الآن فالوضع صعب جدا فأنا لاأستطيع ب200 ريال أن أوفر لهم وجبة الإفطار خلال أسبوع، فالمال "قلت بركته"، وارتفاع الأسعار أصبح مخيفاً، وطلبات الأولاد لاتنتهي ولا أستطيع أن أجاري هذا التضخم الكبير في الغلاء، ونحن مطالبون بتوفير كل شيء، وكل شيء بالمال، فالطعام لايأتي إلا بالمال، وتسديد الإيجار لايأتي إلا بالمال، والتعليم يحتاج إلى المال، والكهرباء تحتاج إلى المال، والماء الذي نشربه يحتاج إلى المال لشرائه، فلا يوجد شيء مجاني لدينا فما الذي تفعله امرأة فقيرة مثلي؟، وغيري كثير ممن شعروا بأن الحياة تقتلهم بكثرة متطلباتها.. فلم أستطع سوى محاولة الاقتصاد وإلغاء بعض المتطلبات المهمة لتوفير الأهم منها، وتبديل بعض المواد الغذائية ذات الجودة إلى مواد غذائية أقل جودة حتى نستطيع أن نجاري مايحصل من غلاء، حتى أنني أصبحت لا أشتري اللحم، فأنا مع أولادي لم نأكله منذ أكثر من سنة ونصف، وكذلك السمك الذي أصبح طعام الأثرياء ونكتفي بالدجاج الذي أخشى أن يرتفع سعره أكثر فنضطر لتناول الأرز دون أي صنف من اللحوم!. د.آل مظف: اهتزاز مكانة الطبقة المتوسطة كارثة اجتماعية واقتصادية معاً حياتنا تغيرت وتلتقط "ابتسام يوسف" أطراف الحديث منها وتتحدث عن الكوارث التي تسببت بها الأزمة الاقتصادية، والتي أصبحت تحرك خيوط الطبقة المتوسطة، فقد كان زوجها يحرص على توفير المعيشة الجيدة لها ولأبنائها، فلديها ولدان يدرسان في قطاع التعليم الأهلي بشكل ممتاز، كمالديها ابن يدرس في الخارج دورة على حساب والده، والكثير من الالتزامات، إلا أنه بعد التدهور الذي حصل اضطر زوجها إلى إخراج أبنائه من مدارسهم الأهلية، وإجهاض الكثير من المشاريع كبناء بيت العمر، خاصة مع ارتفاع مواد البناء بشكل مخيف، وارتفاع الأراضي، وذلك ليستطيع أن يوفر المعيشة الجيدة لأولاده، ومحاولة تمويل ابنه المبتعث حتى ينهي دورته، مشيرة ابتسام إلى أن الأزمة غيرت من حياة المواطنين فمن كان يعيش بشكل جيد أصبح يتقشف حتى يستطيع توفير الأساسيات التي تحتاجها الأسرة لتعيش بشكل معقول. عبد الرحمن الصويغ سؤال مشروع! ويعلق الكاتب عبدالعزيز الصويغ على معاناة بعض المواطنين، قائلاً: "تعد المملكة من الدول ذات القدرات الاقتصادية الهائلة، وهو ما جعلها عاملا رئيسا في كافة الفعاليات الاقتصادية العالمية مثل مجموعة العشرين التي تضم تجمع الدول الصناعية الكبرى مع الدول الناشئة، لمناقشة الموضوعات الرئيسة التي تهم الاقتصاد العالمي، وإذا أخذنا في الاعتبار العوامل التالية: ان المملكة هي أكثر البلاد إنتاجا للنفط، حيث تنتج 10,248 ملايين برميل، بينما تُصدر 8,038ملايين برميل يومياً كما أن المملكة هي الدولة الأولى في كمية احتياطي النفط عالمياً إذ تمتلك 262.3 بليون برميل من النفط في باطن الأرض، كما تحتل المملكة المركز الخامس في احتياط الغاز الطبيعي، والعاشر في إنتاج الغاز الطبيعي، ويثير كل هذا تساؤلا مشروعا عن سبب ارتفاع معدلات الفقر والبطالة في المملكة وتقلص عدد الطبقة الوسطي، فقد ازداد الفقراء فقراً والأغنياء غنىً، وهناك أكثر من دراسة وضعت المملكة في المؤخرة في المستوى المعيشي لشعبها، ففي مسح أجراه معهد غالوب الأمريكي ونشرته مجلة "فوربس"، حول قائمة أسعد الشعوب في العالم وكان فيه السؤال الذي وجه لآلاف المواطنين في (155) دولة حول العالم، هو: "ما مدى الرضا العام عن حياتك؟" جاءت المملكة في المركز ال (58)، بينما تصدرت الدنمارك القائمة. وأشار إلى أن هناك صورا لا تُصدق في معظم مناطق المملكة لتدهور المستوى المعيشي، بل وبعض المرافق الحكومية المُقامة في بعض مناطق المملكة، والمطلوب هو أن نعترف بمشاكلنا سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو غيره، مؤكداً على أن العالم كله يعاني من مشكلات، خاصة مع الأزمة الاقتصادية العالمية، لكن الفرق بيننا وبينهم أنهم يعترفون بمشاكلهم ويحاولون التعامل معها بينما تتراكم لدينا المشكلات لرفضنا الاعتراف بها حتى تتحول من "شرر بسيط" إلى "حريق عظيم"!. سيدات من الطبقة الوسطى يتسوقن بحثاً عن السعر المناسب بدلاً من نوع الماركة تأثيرالضغوطات المالية ويقول أستاذ علم الاجتماع الاقتصادي المشارك بجامعة الملك عبد العزيز بجدة "د.عبيد آل مظف" إن المدارس السوسيولوجية تقدم تعريفات مختلفة للطبقة الوسطى يستند بعضها إلى "الملكية" كمحدد وحيد للطبقة، ويؤكد بعضها على المهنة ومستوى الدخل والدرجة العلمية كعوامل متداخلة في خلق الطبقة، ويلعب العامل الثقافي دوراً بارزاً في تحديد هوية الطبقة الوسطى بحيث ان معايير الطبقة الوسطى في ثقافة ما قد تختلف عن مثيلاتها في طبقة أخرى كملكية المنزل وتعليم الأبناء، وبشكل عام، يميل الأغلبية من الأفراد إلى تصنيف أنفسهم من أفراد الطبقة الوسطى لاعتبارات ثقافية واقتصادية، ولا يوجد اتفاق بين الباحثين في المجتمع السعودي حول متوسط دخل الطبقة الوسطى. لذلك فان الرؤية والفلسفة الاقتصادية الاجتماعية المناسبة التي يمكنها عبر عمليات إجرائية وآليات تنفيذية إنقاذ الطبقة المتوسطة من الانهيار تتمثل في الاهتمام بالخدمات التعليمية، والرعاية الصحية، وتحسين ظروف العمل القائمة، والعمل على توفير المزيد من فرص العمل، وحماية الأسرة من التضخم الاقتصادي، وتعزيز أداء مؤسسات المجتمع المدني ودعمها تشريعياً ومادياً ورفع مستوى الحياة الاجتماعية، من خلال توفير بيئة اجتماعية تلبي احتياجات كافة أفراد الأسرة، فالطبقة الوسطى هي الطبقة الأكثر فعالية حيث انها الطبقة المنتجة والمستهلكة. وأضاف: في حال اهتزاز الطبقة الوسطى فإن ذلك قد ينجم عنه انخفاض إنتاجية الأفراد واختلال في نظم القيم الاجتماعية وبروز ظواهر اجتماعية سلبية كالجريمة والانحراف والتفكك الأسري، لذلك فان الوضع الاقتصادي وتلك الهزات يؤثر ذلك بشكل مباشر على الوالدين، وفي سبيل سعي الوالدين نحو تحقيق المزيد من الموارد المالية يمر الآباء بضغوط صحية ونفسية كما يقل اهتمام الآباء بمتابعة سير العملية التعليمية لأبنائهم، كما تضعف أيضاً إمكانية متابعة الأبناء في المنزل وخارج المنزل (أين هم في دراستهم، مع من يتصاحبون، ممارساتهم السلوكية داخل وخارج المنزل)، كذلك الضغوط الاقتصادية على الآباء يمتد أثرها ليشمل الأبناء، وزيادات في الاضطراب العاطفي، ومن ذلك الشعور بالوحدة، والاكتئاب، وجنوح، أو تعاطي المخدرات، غداً..الحلقة الثانيةأسباب تفكك الطبقة الوسطى والرؤية المستقبلية للتغيير وبحث الأبناء عن مصادر مالية لدعم أسرهم حينما لا يكونون مؤهلين للعمل مما يجعلهم يقومون بأنشطة غير قانونية (سرقة، تجارة مخدرات،...)، انخفاض احترام الآباء والأمهات وزيادة الاعتماد على جماعات الأقران، ومحدودية الخيارات المتاحة لهم في المستقبل (ضعف التطلعات الأكاديمية)، ويمكن القول ان تغيرات البناء الأسري تؤثر على التعليم والتدريب والعمل وأنماط أوقات الفراغ، والرعاية الاجتماعية، والعلاقات بين الأجيال، والوضع يكون أسوأ للعائلات بدون أب ممن يحتاجون إلى رعاية طبية متواصلة، وتخفيض في الإنفاق على التنمية، لذلك فإن الضغوط الاقتصادية على الأسرة كبيرة جداً وتهدد بانقراض الطبقة الوسطى. شابان من أسرتين متوسطتي الدخل لحظة القبض عليهما في قضية سرقة محال تجارية «إرشيف الرياض»