ما زالت "أم روان" تتذكر كيف تنقلت كثيراً في الأسواق المخصصة لألعاب الأطفال تبحث لها عن محل لبيع "الالكترونيات" لتشتري لطفلتها الصغيرة جهاز "البلاي ستيشن"، بمناسبة نجاح طفلتها من الصف الأول الابتدائي، لكنها فوجئت بعد شهر أن "روان" تطلب منها شراء "دراجة" تُشحن بالكهرباء لتلعب بها في فناء البيت، هنا وقفت "أم روان" وقفة تأمل ولاحظت أن الأطفال أصبحوا مستهلكين بشكل خطير ومخيف، بل عادت بها الذاكرة إلى الوراء حينما كان الطفل قبل أكثر من أربعين سنة يفرح كثيرا ب "الريال" الواحد فقط. لا نتحدث هنا عن مفهوم "الهدية" وما يصاحبها من تكلفة مادية ومعنوية، إلا أنه من الملاحظ تحول الطفل مع التغير الاجتماعي الكبير والملحوظ إلى مستهلك تبعاً للأسرة التي أصبحت تجد متعتها الكبرى في التسوق، بل تحول وهو نتاج بيئته إلى كائن لا يشبع، يطلب الكثير ويرغب في المكافئة الدائمة وبشكل يومي، حتى فقدت تلك المكافئة معناها، بل وربما خُصصت له محفظة صغيرة يضع نقوده فيها ليتسوق متى شاء، فهل وجود الطفل المستهلك ظاهرة صحية طبيعية؟، وهل الأسرة وحدها مسئولة عن ذلك التشويه الذي حصل لسلوك وشخصية الطفل؟، أم أن هناك عوامل متسارعة وكثيرة أسهمت في وجود الطفل المستهلك؟، الذي أصبح يطلب الكثير ويتقن "فن الاقتناء والشراء" من دون أن يفكر كيف يكون منتجا وحكيما فيما يطلب ويفكر به؟. هيفاء: لم أعودهم على مبدأ الاستهلاك * هاجر: الطفل كالبحر لا يرحم طلب المزيد تقول "هيفاء السلوم": لم أحاول أبداً تربية أطفالي الأربعة على مبدأ الشراء والاستهلاك الدائم، لكنني اندهشت بأن جميعهم يطلبون المزيد في كل مرة أخرج معهم خارج البيت في المجمعات والأسواق، مضيفةً لقد تحول أبنائي لآلات تبتلع كل ما يُعرض في السوق، وربما السبب في ذلك التحول الذي لمسته على سلوكهم هو تأثرهم بأصحابهم في المدرسة، الذين أصبح التسوق وشراء كل ما يطرح في عالم الأطفال من الجديد الحوار الدائم، الذي يُفتح خلف طاولات الدراسة بين حصص الفراغ أو ربما في وقت الفسحة القصيرة، لدرجة أن أطفالي وعند وصولهم إلى المنزل لا حديث لهم سوى عن آخر جهاز لتحميل اللعب، أو ربما عن آخر "شريط" مشوق نزل للأسواق لكرة القدم على جهاز "البلاي ستيشن"، حتى أصبحوا مستهلكين لكل ما يرتبط بعالم الاستهلاك من صلة، على الرغم من أن البيت لا ثقافة سائدة فيه لذلك النوع من النهج والتفكير، وربما ساهمت الأسواق في تحفيز ذلك النتاج لدى أطفالي الذين إن خرجوا وجدوا المغريات في كل مكان، حتى في "البقالات الصغيرة" التي توفر الألعاب الورقية وكذلك بعض الثياب برسومات ل "أبطال كرتونية"، لافتةً إلى أنها بدت تكره خروج أطفالها معها في الأماكن العامة، لأن ما بداخل المحفظة سيقل سريعاً بسبب طلباتهم الكثيرة التي لا تنتهي. تلتهم كل ما يراه وتشبه "هاجر يوسف" الطفل بالبحر الذي لا يرحم، حيث لاحظت مؤخراً بأن الأطفال أصبحوا يطلبون أكثر مما يفكرون أو ينتجون، فالطلبات الاستهلاكية في كل مكان من دون أن يفكروا من أين وكيف؟، وذلك ليس فقط على مستوى الأسر الثرية، بل كذلك على مستوى الطبقة المتوسطة والفقيرة، حيث أصبح الطفل يطلب أن تنفذ رغباته في كل وقت، ذاكرةً قصة ابنها الصغير الذي لم يتجاوز الثامنة والذي تسبب في صرفها خلال ساعة واحدة في رحلة تسوق 250 ريالا لأمور متعددة، فطلب منها أن تشتري له كرة قدم، وحينما أشترت له ما أراد ما هي إلا دقائق حتى رغب في وجبة أطفال من إحدى المطاعم السريعة، وحينما أشترت له الطعام طلب منها شراء "بنطال" رياضي حتى يلعب مع أقربائه الكرة، وحينما أبدت غضبها من طلباته التي لا تنتهي وحذرته من التمادي وإلا ستعود به إلى البيت، صمت ثم أخبرها بأنه يريد "البنطال" الرياضي كنوع من الهدية، لأنه التزم الهدوء في المجمع التجاري، موضحةً أن الطفل أصبح متعبا جداً في عرضه لرغباته التي لا تنتهي والتي تلتهم كل ما يراه من دون تفكير. خالد: الأم هي من يتحمل المسؤولية قرية ترفيهية ويُحمل "خالد العبدالله" مسئولية وجود الطفل المستهلك الأم في المقام الأول، التي أصبحت لا تعرف أن تربي طفلها على الاعتدال وحسن التدبير، وربما أفسدته بكثرة استجابتها لرغباته التي لا تنتهي، حتى فقدت المكافأة معناها، فالأم حينما تفكر بالخروج برفقة أطفالها في الأماكن العامة تطلب من زوجها مبلغا من المال يعادل مصروف شهر كامل، بحجة رغبتها في أن يلعب الأطفال خمس إلى سبع ألعاب في القرية الترفيهية، وربما رغبت في عشاء فاخر يوافق رغبات الطفل من دون تردد، وحينما تخرج مع الأطفال تصرف ذلك القدر من المال، وربما أضافت عليه من مالها الخاص، مضيفاً عند العودة إلى المنزل تعلق بأن المال لم يكف وطلبات الأولاد كثيرة، لافتاً إلى أن الأم سبب رئيسي في وجود الطفل الذي لا يشبع، فلابد من وضع حدود لتلك الرغبات، وأن يعي الطفل بأن هذا المال له ثمن ولابد من الحفاظ عليه، وبأن الرغبات لا تتحقق إلا في مناسبة خاصة كالنجاح أو تحقيق انجاز أو قيامه بسلوك جيد، إلا أن ما يحدث هو أن الأم تربي طفلها على الأخذ الدائم من دون تخطيط، لذلك لابد أن تعيد المرأة طريقة تعاطيها مع أبنائها، لأنها هي أول المستهلكين ولابد من أن تتوقف عن ترديد "إذا بقيت مؤدب سأشتري لك"؛ لأن ذلك يسجعل شعور الشراء موجود بداخل الطفل، وربما أقترن الشراء لديه بالمتعة، فيتحول من أمر جيد وعابر إلى عادة. أنماط جديدة ويرى "د.صالح العقيل" الباحث الاجتماعي، أن هناك تغيرا سريعا في مجتمعنا، ما أدى إلى ظهور نتائج سلبية وإيجابية، وإن كان السلبي منها أكبر فيما يخص بالتنشئة، فالطفل أصبح مستهلكا لأن الأسرة أصبحت مستهلكة أيضاً، فبمجرد نزول الراتب الشهري يعرف أين سيذهب والداه؟، وربما تعدد الأسواق وتعدد المراكز التجارية قد يكون عاملا مؤثرا في هذه المسألة، كما أن الآلية الموجودة في التسويق وتوزيع الدعايات التي أصبحت تصل إلى المنزل أثرت بشكل كبير على اطلاع الطفل بما هو موجود في الأسواق، مضيفاً تلك لها أسباب كثيرة فقد يكون الإعلام سبباً بما يبثه من إعلانات وتنوع المنتجات التي أصبحت موجودة في السوق خلال الخمس السنوات الأخيرة، فعلى سبيل المثال جهاز الجوال وجد منذ 13 سنة وخلال تلك السنوات كم فرد قام بتغيير جهاز جواله؟، بل كم فرد قام بتغيير جهاز جوال ابنه؟، حتى أصبحت المكافأة للأسف فيما يخص الأطفال لا قيمة لها، مشيراً إلى أن الآباء يسهمون بتنمية الاستهلاك السيئ لدى الطفل من خلال مبدأ المكافأة، فأصبحوا يهدون الطفل الجوال كهدية للنجاح، وجميع تلك الأمور غير المقننة تدفع إلى الانحراف؛ لأنه ليس كل مجتمع يستطيع توفير الكثير للأبناء، وبالتالي فإن الابن في سن المراهقة ينحرف بحثاً عن ما يشبع رغباته، وذلك الانحراف قد يظهر بعدة صور، قد يكون ترويج المخدرات أو سرقة أو سطوا، ولذلك ظهرت في الآونة الأخيرة أنماط جديدة من الجريمة منها اختراق أرصدة البنوك على الانترنت، ومنها الابتزاز الذي تنوعت أشكاله، ففي السابق حينما يقوم الفرد بربط علاقة مع فتاة فإنه قد يقصد الزواج منها، وربما تكون أهدافه نبيلة، أما الآن فإن علاقات الحب بين الطرفين قد تصل إلى الابتزاز!. د. العقيل: هناك تغير سريع في مجتمعنا أدى إلى ظهور نتائج سلبية تخص التنشئة انتشار المطاعم وأوضح "د. العقيل" أن للهدية قيمة ولكن نوع الهدية كيف يكون؟، فحينما تكافئ طفل في الثامنة من عمره على جهاز جوال، فإنه حين يصل إلى سن الثانية عشر يرغب في الحصول على سيارة، فأهدافه تكبر أو ربما يطلب السفر إلى خارج المملكة، وذلك ما ينطبق على الفتاة أيضاً، كذلك انتشار المطاعم والمجمعات التجارية والتي تدفع لأن يكون الفرد مستهلك، فالمطاعم أصبحت منتشرة بشكل مخيف، حتى إن عدد المطاعم في شارع واحد أكثر من عدد المحلات الأخرى، لافتاً إلى أن عمل المرأة وعدم تفرغها لتربية أبنائها أصبح سبباً في خلق الطفل المستهلك، فالعلاقات الأسرية أصبحت متقطعة، حتى أن هناك أبناء لا يقابلون آباءهم إلا في يوم واحد في الأسبوع وهو يوم الجمعة، على الرغم من وجودهم في منزل واحد، كذلك من العوامل الهامة سوء فهمنا للحضارة التي أصبحنا نرى من خلالها الأمور بطريقة معكوسة، لذلك المجتمع بحاجة إلى إعادة صياغة بعض المفاهيم مثل الحضارة والهدية والتربية وعمل المرأة، التي وصلت إلى مرحلة دعوة صديقاتها في المطاعم والمقاهي من دون أن تكترث للبيت!.