وهذه من المقطعات الشعرية المنسوبة للمرأة في غرض الرثاء. وقد وردت في كتاب "شاعرات من البادية" لعبدالله بن رداس، مع اختلاف يسير في بعض الألفاظ، وهي منسوبة لامرأة اسمها كنّه الشمرية. والمقطع الشعري وفقًا للرواية الشفهية هو: يارجم ماشفت عبدالله ما نطّ بك وقت الأدماسي يارجم أنا سالتك بالله أيّ المراجاء والإيّاسي حلفت عن كلّ خلق الله أرجيه إليا حِشْرو الناس وعبدالله المذكور هو زوجها الذي فُجعت بموته بعد رحلة قصيرة قام بها. ولهذا، فإنها تتوجّه بخطابها إلى الرجم مباشرة. والرجم هو ما ارتفع عن الأرض من حجارة أو كثبان أو خلافهما. وكأنها بذلك تتذكّر آخر لحظات وجوده معها، حينما اختفى من وراء ذلك الرجم. ولكونها لم تُصدّق يقينًا أنه غاب إلى الأبد، فقد بقي لديها أمل أن غيابه مؤقّت وأنه لايزال حيًا، وتفسّر أبياتها التالية هذا الشعور النفسي. وكما يتّضح من مخاطبتها للجماد الذي تتوقّع تجاوبه معها وأنها ستجد لديه إجابة مختلفة عما لدى البشر. إن بصيص الأمل الذي تحتفظ به، هو الذي ساعدها لكي تبقى على قيد الحياة من خلال التذكّر السارّ الذي يوفّر بديلا للعجز واليأس. وتعمل القصيدة بوصفها فنًا متساميًا على تخفيف حدّة التوتّر النفسي من خلال البوح الذي يستجدي الجماد، كما في قولها: «يارجم أنا سالتك بالله». ويرويه ابن ردّاس بصيغة المذكر «يارجم أنا سايلك بالله»، ولكن صيغة المؤنث (سائلتك) التي سقطت منها الهمزة للتخفيف هو الأقرب لروح القصيدة وهو الأقرب لطبيعة اللهجة الشعبية في منطقة الشاعرة التي طالما سمعت ما يشبهها. على أن صيغة (أسألك بالله) وتنويعاتها مثل: سألتك بالله، وبالله عليك، من الصيغ التي تُستخدم في المواقف الحاسمة واستخدام لفظ الجلالة يعطيها قوّة ويجعلها تتطلّب -بالضرورة- إجابة تتّصف بأنها مباشرة وصادقة وحاسمة. وهذه المعاني حاضرة في سؤالها للرجم سؤالا صادقًا تبحث له عن إجابة تُخفّف من وطأة البؤس والحزن الذي يرين على قلبها. وسؤالها هذه المرّة تجاوز البحث عن إجابة كما في سؤالها الأول، فهي تريد الآن إجابة نفسيّة تشفي الغلّ الذي يفتك بكيانها، ولهذا، فهي تطرح موقفها بأنها أمام أمرين: إمّا أن تعيش تحت رحمة من طيف الرجاء حتى وإن كان رجاء كاذبًا، وإما أن تستسلم للقنوط وتدخل في لجّة اليأس، فتصدّق أنّ زوجها مات ولم يعد له وجود على هذه الأرض ولن يأتي إليها إلى الأبد. وهي لا تريد أن يصل عقلها إلى الاختيار الثاني بأيّ حال من الأحوال، لأنّ ذلك يعني دمارها الكلّي، وأكّدت على موقفها في عجز البيت الأخير: «أرجيه إليا حشرو الناس»، بكسر الحاء، وفي رواية «حشرت»، وقد رواه ابن ردّاس: «أرجيه إذا حشروا الناس». وهو مايخالف اللهجة المستخدمة. والمراد أنّ موقفها الذي قرّرته بالاستكانة إلى الرجاء لن يتوقّف وستبقى وفيّة له ولذكراه، تعيش معها يومًا بيوم إلى أن تلتقي به في يوم المحشر. وللشاعرة نفسها مقطعات شعرية أخرى، تؤكد موقفها السابق. على أن الرواة يشيرون إلى أنها رفضت الزواج من بعد وفاة زوجها. وواقع الأمر عندها مختلف عما يقدّمه الرواة الذين ينطلقون مما هو معتاد في مثل حالها. ولو تأملنا وضعها، لوجدناه خاصًا، ذلك أن الزواج أو التفكير في رجل آخر ليس له وجود في ذهنها البتّة. وتذكر الدراسات النفسية والطبية، أن العقل حينما يخلو من أيّ رصيد لخبرة متوقّعة، فمن المحال أن يتقبّل المرء ذلك، وسيُواجه بآلية دفاعية ذاتية بالرفض النفسي والعقلي والجسدي، الذي ربما يفضي بالمرء إلى الجنون أو الوفاة، كما يحصل حينما يُحقن الجسد بمادة لايتفاعل معها. وقد كوّنت، هذه المرأة المفجوعة بفقدان حبيبها، علاقة مع الجماد، في تعبير عن ابتعادها عن الرؤية السائدة لدى البشر حول وفاة الزوج، تقول في مقطوعة أخرى : نطيت عسر المراقيب برجمٍ حدتني ملاويحه أقنب كما يقنب الذيب يواتليت مع عويتي صيحه بس الهبايب اتومّي بي ياما تهايفت للطيحه على عشير يهلّي بي واقصى الضماير مراويحه ويُعبّر هذا المقطع عن السلوك اليومي الذي تقوم به لمواجهة الحزن من خلال إعادة تكوين الحدث ثم محوه وإعادته مجددًا، والاستعانة بعنصر بشري وحيد هو زوجها، دون أن تستعين بأي مخلوق بشري آخر. لهذا فهي تستجير بالجماد والحيوان لكنها لم تلتفت إلى بشر. وإذا كانت المقطوعة الأولى متوجّهة نحو الإيمان بالمستقبل، فقد توقّفت هذه المقطوعة عند الحالة الراهنة التي تعيشها في مرحلة ركون للألم. ولعلّ الرزيّة التي عاشتها هذه المرأة جعلتها في حالة من الاضطراب النفسي والعقلي، وقد ساعدت نفسها بالتسامي على الواقع والرضا بهذا النوع من العيش الذي آمنت فيه بقدرها «مهما استطال البلاء، ومهما استبدّ الألم» كما في قصيدة بدر شاكر السياب والتي منها قوله: شهورٌ طوالٌ وهذي الجراح تُمزّق جنبيّ مثل المُدى ولا يهدأ الداءُ عند الصباح ولايمسحُ الليلُ أوجاعه بالردى ومع الألم الذي عبّرت عنه الشاعرة بطريقة شبيهة بما عبّر عنه السيّاب مع ملاحظة اختلاف التجربة، إلا أن ذلك نقلها إلى التعبير عن مستوى من الفجيعة التي تمرّ بها المرأة في مجتمعنا وتظل صامتة إزاء بلواها. وقد نجحت هذه الشاعرة الشعبية ببساطة كلماتها وعذوبة تصويرها وصدق تعبيرها في الكشف عن الضمير النسوي للمرأة العاشقة حتى ولو خالفت المعتاد عند العرب، من التصريح بالحب.