..ويمكن أن يكون هذا التشفير، تشفير المخاطب المقصود في الأغنية، صناعة مشتركة وتعتمد فيها اختلاف الأهواء والرغبات بين صناع الأغنية إلا أن مشاعر الاندماج والحياد يشكف الكثير عن البنية النفسية والاجتماعية بين المواربات في لعبة الإخفاء والإيحاء. ..ويخرجنا هذا التحليل من صور (الخنثويات الغنائية) الظاهرة في تجارب غنائية عربية لم تبدأ مع منيرة المهدية وفتحية أحمد ولم تستمر مع كل من عبد اللطيف البنا وعواد سالم ولم تنته مع آخرين موجودين بكثرة الآن. ..ويمكن أن يمضي التحليل في اعتبار صورة الخنوثة "تقوم على فكرة رئيسة في واعية الإنسان، هي البعد التكاملي في شخصيته وفي الوقت نفسه اكتفاؤه الذاتي بما لديه" (71) إلا أنها قد تنطوي على قصدية الإخفاء والتمويه عن تعبير الحقيقة، وهي مجال محفوف بالالتباس في تأويل صوره ومقاصده. ..وإذا كنا رأينا في خطاب الغناء عند نموذج رباب [تناولتها في مقالات سابقة]، تجاوز خطوط عزل التجربة الشخصية عن الإبداعية حيث يصعب على المرأة اختراق خطاب الغناء الذكوري إلا بعدما دخلت مجالات العمل المختلفة وبدت أدوارها البنفسية والاجتماعية تتقدم في هموم المسرح والسينما والأغنية بمواكبة الأدب والصحافة بوصفها مجالات التعبير عن الذات وطرح الأفكار. ..وهذا ما دفع إلى انتقال تطوري وتحولي في خطاب المرأة الثقافي وتبدى في ظهور خطابات المرأة بين خطاب نسوي وأنثوي يصبان في مواجهة الخطاب الفحولي والأبوي. ..وهذا لا يكون سوى بتضافر جهود مثقفين ومثقفات يتعاون كل واحد وواحدة منهم/منهم في تطوير خطاب المرأة من واقع وعي حقوقي واجتماعي ونفسي يعيد تأهيل الأفكار وصياغتها في مجالات الإنتاج الثقافي المختلفة. ..فقد تتعدد مراحل هذا الوعي ارتبطت بمتغيرات سياسية واقتصادية على مستوى المجتمعات العربية حين تقدم مجالات الحياة العامة وتوفرت فرص بعضها متكافئ وأخرى لم تتح إلا متفاوتة حكمتها مؤسسات الضبط الاجتماعية والأخلاقية والثقافية في صورها المتفاوتة حسب البيئة والموروث والتاريخ من إرث المجتمعات البدوية والريفية وضآلة مكونات البيئة الحضرية في عواصم ومراكز العالم العربي. ..وربما تبدى في مجالات إنتاج الثقافة صور الحداثات الإبداعية في حقول الموسيقى والمسرح والسينما والصحافة، وأسهم ظهور المرأة على خشبة المسرح وأمام ميكرفون الاستوديو وكاميرا السينما بدفع تطور خطابها حتى ولو بشكل متفاوت أسهمت فيه عقول تنويرية. ..بدأت تنتج خطابها الثقافي منذ أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين تحت ما اصطلح عليه بمسمى عصر النهضة وتجليات حداثاته في مرحلة أولى آنذاك في كتابات أبناء الحواضر العربية (في الشام ومصر والعراق وتوزع الخطاب لاحقاً في مناطق أخرى) مثل: بطرس الستاني وفارس الشدياق ورفاعة الطهطاوي وأنستاس الكرملي، وتتابع ذلك في مرحلة ثانية مع كتابات قاسم أمين وزينب فواز وجميل الزهاوي ومعروف الرصافي وعائشة التيمورية..