في يومياتنا نصادف العديد من الشخصيات التي تمثل الجانب الروائي الشفهي وتحمل إبداعاً لافتاً فيه، ويظهر هذا في الأحاديث المباشرة في المواقف المختلفة ، فنرى سرداً إبداعياً لا يكاد يختلف عن السرد الإبداعي المكتوب تتجلى فيه الصور والعبارات الفلسفية والأمثلة ، ونرى أيضاً التصوير والحبكة والبعد الدرامي والفكاهي والفلسفي والتوزيع المتقن للشخصيات وأدوارها على الأحداث والمواقف داخل نسيج الرواية . وفي بدايات الحياة بالنسبة لي كنت أتأمل في المجالس العديد من الأحاديث التي تحمل هذا الطابع ، ولازلت أذكر تلك الشخصيات المبدعة في صياغة الرواية الشفهية(الشعبية) ،إذا جاز التعبير، سواء في رحلاتنا مع والدي في البادية أو في المجالس داخل القرية (حالة عمّار) أو (القريات) أيام توهّج الحياة الاجتماعية فيها ، ومن تلك الشخصيات استطعت أن اقرأ الواقع وان أتلمس أول طرق المعرفة والتأمل والعثور على العلاقة التي تربط الواقع ومفرداته بالخيال والحلم الذي يجسّده هؤلاء لوحة روائية في غاية الجمال ، فكان الراوي ، حتى حينما يريد سرد قصة قصيرة أو يعبر عن موقف ما، يتناول التهيئة المكانية والزمنية ليأخذ مخيلتنا لها ويبدأ في تصوير المشهد لينقلنا بكل براعة ، فنستنشق رائحة العشب في ذلك المكان ونحس ببرودة الأجواء التي التي يتحدث عنها وننفعل بصدق ونجول في فضاء الحدث وكأننا من صنّاعه ونشارك الروائي (المتحدث) ، الذي يقوم بالحديث عن الشخصيات ويرسم أبعادها لتكون حاضرة معنا ، وأكثر تلك الشخصيات كانت من الواقع ولكن الراوي يمنحها بعداً مختلفاً من حيث الشكل واللغة والدور ، ويتناول في حديثه أيضا جانب الحكمة أو الهدف من السرد بطريقة إبداعية لا تخلو من الشعر والأمثلة وتراه يخاطب كل شخصية وربما يهاجمها أو يحاكمها أثناء سرده ليدخلك في خضم الصراع بينها ويجعلك تعيش الحالة بصورة أعمق وهذا ما يثير لديك الدهشة والرغبة في الاستماع له دونما ملل . وتبرز مثل هذه الإبداعات أو الشخصيات في البادية أو القرى نظراً لقرب الناس من بعضهم ولقلة الملهيات وانغماس الناس في حياتهم الحاضرة بشكل عميق لا يشغلهم فيه المستقبل وانتظار قوافله، وهذا ما كان يعطي لشخصياتهم الصورة الملتحمة مع الواقع والإدراك لمضامينه المختلفة ، وتكون بالفعل شخصيات ساحرة تأسر المستمع وتزيد من متعة الحياة حولها ، وتجذب لها الناس باستمرار ، ومثل هذا الجانب في حياتنا لابد أن يكتشف وينقب فيه عن المبدعين وعن تلك الشخصيات المثيرة والمبهجة والتي تلف بين زواياها عمق الحياة وحكمتها وإبداعا لم تكتشفه هي أصلاً ؛ فأكثر القصائد كانت جزءاً من رواية شفهية مبدعة أو خلاصة لها ، وبعضها كان نتاج ليلة دار فيها الحديث عن وصف بلاد أو موقف رجولي أو قصة مثيرة ورواية ترسم بلون الحكمة فضاء الدهشة في أذهان الحاضرين ! فحينما نبدأ في إعادة النظر في مشهد السرد الشفهي الذي يدور في مواقفنا ومجالسنا سنكتشف أن هناك كما هائلا من الروائيين الشعبيين الذي سبقوا غيرهم في هذا المجال ، وربما قبل أن يتعلموا الكتابة ، وحينها نقوم بتأريخ هذا الجانب ومعرفة أبعاده وتطويره ، ولا أقصد الرواية الشفهية المقصودة التي يمارسها البعض الآن ، بل أعني تلك الروايات التلقائية التي تصنعها المواقف والأحداث اليومية ، وتنبع من أناس تلقائيين لا يعتنون كثيراً بالألفاظ وتنميقها ويعبرون بصدق عن رؤيتهم لتكون اختصاراً مبهجاً للحياة والناس!! قوس: علميني لاارتبك ظلي وطاح ارسم الجدران للمنفى واروح دلّة البارح سواليف ومزاح ودلّة الليلة لنا عيّت تفوح