في العصر الحديث اتجهت كثير من الدول إلى الاستثمار في الصناعات الثقافية وذلك بسبب مردودها الثقافي والمعنوي والدعائي ، وقبل ذلك وبعده مردودها المادي الكبير. أما في العالم العربي والإسلامي فإن هذا الموضوع لم يحظ بالاهتمام اللازم فعلى الرغم من أن الموروث الثقافي لدينا كبير وعظيم كما أن المحتوى الثقافي لدينا واسع وشامل ، إلا أن كل ذلك لازال بعيداً عن التصنيع وتحويل قيمه المعنوية والروحية إلى قيم مادية أي تحويله إلى سلع يمكن أن تباع وتُشترى وتصدر إلى جميع أنحاء العالم من أجل تحقيق هدفين أحدهما التعريف بها ونشرها، والآخر الاستفادة المادية. لقد أصبحت الصناعات الثقافية تدر عائداً كبيراً وأصبح الاستثمار في ذلك المضمار ذا أهمية قصوى حتى إنه يمكن القول إن الرأسمالية الثقافية في طريقها إلى التبلور إن تحويل الجانب المعنوي أو الروحي إلى صناعات ثقافية هو تعبير مادي عن ذلك الجانب أي تحويل الشيء غير الملموس إلى منتج ملموس يتم تداوله. ومن هذا المنطلق تعكس الصناعات الثقافية حالة الشعوب ومستوى تقدمها وحضارتها ، وهي في نفس الوقت تشكل درعاً حامياً لهويتها الوطنية ومن هذا المنطلق تشكل الصناعات الثقافية أهمية خاصة للعالمين العربي والإسلامي بل تشكل أهمية بالغة لكل دولة من دوله وذلك لحماية المحتوى الثقافي من تلك الهجمة الثقافية والإعلامية المبرمجة ضده والتي تستهدف من خلال ذلك الهوية الوطنية والانتماء والقواسم المشتركة التي تشكل أعمدة الوحدة الوطنية. ولقد استغلوا في سبيل تحقيق ذلك بعض مقومات الصناعات الثقافية مثل الإعلام والنشر والتوزيع وغيرها من الوسائل التي أصبحت صناعات لها منتجاتها ولها وسائل توزيعها ولها مستهلكوها. وعلى العموم فإن الصناعات الثقافية في الدول النامية لا تستطيع النجاح أو حتى مجرد الصمود إذا تركت لاقتصاد السوق وذلك بسبب المنافسة غير المتكافئة من قبل مَن استحوذ على السوق من خلال السبق ، وامتلاك التكنولوجيا المتقدمة. لذلك فإن مثل تلك الصناعات تحتاج من الدول التي تنشد الاستثمار في الصناعات الثقافية دعمها وحمايتها ورعايتها حتى تقف على أقدامها وتعزز تواجدها. إن الصناعات الثقافية متعددة الجوانب والأشكال والأهمية والقبول ولعل من أهم مشاريعها: المسرح والسينما والفنون بكافة أشكالها، وكذلك الصناعات التقليدية المعبرة عن الهوية الوطنية مثل الحرف اليدوية بالاضافة إلى صناعة التأليف والترجمة والنشر وصناعة الصور المتحركة والتسجيلات الصوتية والوسائط السمعية والبصرية ، والمنتجات الفوتوغرافية والنشر والبحث عبر الإنترنت والاتصالات ووسائل الإعلام المختلفة. إن مفهوم الصناعات الثقافية ينطبق على الصناعات ذات الطبيعة الثقافية التي تجمع بين ابتكار المضامين وإنتاجها والمتاجرة بها وهي يمكن ان تكون على شكل بضائع أو خدمات.. أما الأعمدة التي تقوم عليها الصناعات الثقافية فإنها تشمل: المنتجين لعناصر الثقافة وهم المفكر والأديب والكاتب والصحفي والرسام والمغني والممثل وغيرهم أما العمود الثاني فيشتمل على المنتجات وهذه تتضمن على سبيل المثال الأدب والفن والفنون الشعبية والفكر والغناء والموسيقى والعلوم وغيرها. أما العمود الثالث الذي تقوم عليه تلك الصناعات فهو المستهلك للثقافة ومفرداتها وهذا يتمثل بالجمهور الذي تتفاوت قدرته على التلقي حسب مستواه التعليمي والاقتصادي وفئته العمرية بالاضافة إلى أن الكثافة السكانية لها دور بارز في تحديد القدرة الاستهلاكية لتلك المنتجات ناهيك عن أن لوسائل الإعلام ، معززة بوسائل الاتصال الجماهيري الأخرى ، دورها الذي لا يمكن إغفاله في نقل الرسالة ونشرها من خلال الدعاية والإعلان أو المراسلة أو الاتصال أو غيرها من الطرق .. وعلى العموم فإن نجاح وسائل الاتصال الجماهيري في مهمتها في أي مجتمع من المجتمعات يعتمد على مجموعة من الشروط يأتي في مقدمتها وجود كثافة سكانية مناسبة يعتد بها ، ووجود قاعدة علمية وثقافية يمكن من خلالها إنتاج المعلومات وتوزيعها ومن ثم استهلاكها. لقد أصبحت الصناعات الثقافية تدر عائداً كبيراً وأصبح الاستثمار في ذلك المضمار ذا أهمية قصوى حتى إنه يمكن القول إن الرأسمالية الثقافية في طريقها إلى التبلور، كما أن تزاوجها مع الصناعات الرقمية أصبح أساسياً مما يتيح القول ان الحضارات أصبحت ذات صبغة رقمية خصوصاً الحضارة الغربية. وعلى الرغم من ذلك فإن الإرادة والرأي الصائب والرؤية الواضحة والقدرة المادية من أهم عوامل الولوج في هذا النوع من الاستثمار الذي نحن في أمس الحاجة إليه ليس من أجل الحصول على عوائده الاقتصادية فقط ولكن من أجل تصحيح الصورة التي يتم تشويهها باستخدام تلك القنوات حيث تم استغلال التقنيات الرقمية لسماع كل شيء وتسجيل كل شيء ، والتسلل إلى كل شيء وبهذه الأبعاد وغيرها تم تزييف الحقائق وصنع واقع من نسج مصالحهم وبما يلبي مطالب القوى الاحتكارية واللوبيات التي تحكم من خلف الكواليس. إن الحاجة أصبحت ماسة إلى رفع مستوى الثقافة من خلال القراءة أو إيصالها بالطرق والوسائل المختلفة خصوصاً ان الاحصاءات أفادت بأن الفرد الأوروبي يقرأ بمعدل عال وكبير بالمقارنة مع غيره ، ويمكن ملاحظة ذلك في صالات الانتظار وفي اثناء السفر وكذلك خلال أوقات الفراغ، أما في العالم العربي فإن مستوى القراءة منخفض إلى أبعد الحدود وهذه فضيحة كبرى لابد من ايجاد حل لها. أما في مجال إنتاج الكتاب فإن تقرير التنمية البشرية لليونسكو لعام (2003) قد أشار إلى ان الدول العربية مجتمعة انتجت (6500) كتاب في ذلك العام بالمقارنة مع انتاج (102000) كتاب في أمريكا الشمالية و(42000) كتاب في أمريكا الجنوبية. ولاشك ان السبب في ذلك يعود إلى أن الصناعات الثقافية ليست متوفرة لتشد من أزر المؤلف والمفكر والمبدع العربي وتدفعه إلى الانتاج. وعلى أية حال فإن التقارير التي تصدر عن منظمات أجنبية أو دولية لا تراعي الخصوصية العربية لأن من يعدها ليسوا بعرب ، ولا يطلعون بشكل دقيق على المعطيات الأساسية التي تشكل منظومة القيم لدينا فتأتي استنتاجاتها غير موضوعية في بعض الجوانب، لذلك أتى التقرير العربي الأول الذي اعدته مؤسسة الفكر العربي بالتعاون مع المؤسسة العربية للعلوم والتكنولوجيا ومركز دراسات الخليج بمثابة القول الفصل ، وقد تناول ذلك التقرير خمس ملفات هي: التعليم والإعلام وحركة التأليف والنشر والإبداع بالاضافة إلى جزء خاص بالحصاد الثقافي السنوي في العالم العربي. هذا ولم يكتف التقرير بالوصف والتشخيص بل انتقل إلى حملة النقد والاستشراف بوصفهما الركيزة الأساسية لأي نهوض عربي مستقبلي. هذا وقد أشار التقرير إلى انه يصدر سنوياً كتاب لكل (12) ألف عربي بينما هناك كتاب لكل (500) انجليزي، وكتاب لكل (900) ألماني وهذا يعني ان معدل القراء في العالم العربي لا يتعدى (4٪) من معدل القراء في بريطانيا. أما عن موضوع الصناعات الثقافية في العالم العربي فقد أشار التقرير إلى عدم توفر احصائيات دقيقة. وقد أشار التقرير إلى أن (5٪ - 10٪) من قيمة المنتجات في العالم تشكلها الصناعات الثقافية. ويذكر التقرير أن العالم العربي لا يصنع أكثر من (35 - 40٪) من حاجته إلى الورق. ويستورد (65٪) في واحدة من الصناعات الثقافية المهمة المرتبطة بالأمن القومي. كما أشار التقرير إلى ان عدد المدونات العربية على شبكة الانترنت حوالي (490) ألف مدونة وهي نسبة لا تتعدى (0.7٪) من مجموع المدونات عالمياً. كما يبلغ عدد المواقع العربية المسجلة على الانترنت عام (2007) حوالي (41745) موقعاً وهذا لا يشكل سوى (0.026٪) من اجمالي عدد المواقع العالمية. كما يشير التقرير إلى ان مجموع الفضائيات العربية يربو على (482) فضائية والمتخصصة منها (19٪) دينية و(18٪) أغاني ، بينما لم تحتل القنوات الأدبية والثقافية سوى (4.8٪) منها، أما عدد الكتب التي نشرت في العالم العربي عام (2007) فبلغ (27809) كتب تمثل الكتب المنشورة في العلوم من هذا الرقم حوالي (15٪) بينما تصل نسبة الكتب المنشورة في الأدب والأديان والإنسانيات (65٪). من تلك الاحصائيات نستنتج أن العوائد المادية التي تعود على منتجي الثقافة متواضعة والتشجيع والدعم مفقود والسوق ضعيفة، كما أن الصناعات الثقافية التي يشكل الإنتاج الثقافي المادة الخام التي تعتمد عليها مبعثرة ، وغير مبرمجة إن وجدت ناهيك عن غيابها في كثير من المجالات ذات الأبعاد التربوية والفكرية والأمنية والوطنية. نعم تعتبر المنتجات الثقافية حاملة للهوية والقيم والدلالات. وفي الوقت نفسه عوامل تنمية اقتصادية واجتماعية. لذلك فإن تشجيع الصناعات الثقافية وحمايتها ودعمها يعمل على صيانة التنوع الثقافي خصوصاً إذا زودت بوسائل تساعدها على اثبات ذاتها على المستويين المحلي والعالمي. وعلى العموم فإن أهمية الصناعات الثقافية تزداد بصورة مطردة على نطاق العالم وعلى نطاق الأممالمتحدة حيث تم الاعتراف بها من قبل عدد كبير من الوكالات والهيئات مثل منظمة اليونسكو ومنظمة العمل الدولية والمنظمة العالمية للملكية الفكرية ، ومؤتمر الأممالمتحدة للتجارة والتنمية ومنظمة الأممالمتحدة للتنمية الصناعية وبرنامج الأممالمتحدة الإنمائي ، والاتفاق العالمي والشراكة الجديدة من أجل التنمية في أفريقيا وغيرها من المنظمات والمؤتمرات. هذا ويعتبر التحالف العالمي من أجل التنوع الثقافي أحد أساليب العمل على تنفيذ برنامج اليونسكو المتعلق بدعم قيام وتعزيز الصناعات الثقافية في البلدان النامية وذلك بغية تكوين أسواق محلية أو الارتقاء بها وتوفير منافذ لها إلى الأسواق العالمية وهذا كله يصب في خانة التنمية المستدامة. هذا وقد دأبت اليونسكو على دعم مساعي الدول الأعضاء في سبيل رسم سياسات ثقافية فعالة فهي تقدم خبراتها وتزود بالأدوات كل من يحتاجها خصوصاً في مجالات صناعة الكتاب والحرف اليدوية وسائر الصناعات الثقافية. وعلى أية حال فإن العوائد الاقتصادية للصناعات الثقافية أصبحت كعكة تتنافس الأمم من أجل الحصول على جزء منها. كما أن مضمون تلك الصناعة كما أشرنا سابقاً أصبح ذا مساس بالهوية والانتماء والتوجه حتى منذ سن مبكرة جداً وذلك من خلال الرسوم المتحركة وتكنولوجيا الترفيه اللتين يتم استهلاكهما من قبل النشء الصغير على مدار الساعة. ولذلك كله فإن انشاء مؤسسة عامة تُعنى بالصناعات الثقافية أصبح ذا أهمية بالغة ولعل من أهم واجبات تلك المؤسسة ما يلي: * دراسة واستعراض وضع الصناعات الثقافية على المستوى المحلي وتصنيفها حسب أهمية كل منها ، والعمل على حل كل المشاكل التي تعترض سبيل تطورها خصوصاً ان تلك الصناعة تعتبر مؤشرا على مدى ازدهار الابداع الفكري والفني والتطور الثقافي للبلاد ناهيك عن دورها في توفير فرص عمل جديدة. * إنشاء قاعدة معلومات تطال أركان تلك الصناعة والمتمثلة في المنتجين والمنتجات والمستهلك محلياً وعالمياً وذلك لأن توفر تلك المعلومات كفيل بجذب المستثمر من خلال الشفافية ووضوح الرؤية. * العمل على ضم الصناعات الثقافية إلى قائمة الصناعات الوطنية التي تحظى بالدعم وتشجيع الاستثمار ناهيك عن سن التشريعات اللازمة التي تكفل نجاح الاستثمار فيها ويدخل في ذلك وضع برنامج لحفز الاستثمار في مجال الخدمات وإنتاج المضامين الثقافية الرقمية والتعريف بالفرص المتوفرة في ذلك المجال.. والله المستعان..