تذكرني عبارة "نيقولا ميكافيللي" -الذي ولد في (فلورنسا بإيطاليا) (1469-1527م)- التي ذكرها في كتابه "الأمير" "الغاية تبرر الوسيلة" بكل معاني الانتهازية التي بنى عليها الغرب أفكاره ومبادئه الاستعمارية، فقد شكلت هذه العبارة الأخلاق السياسية خلال القرون الأخيرة في جميع أنحاء العالم وتحولت مع الوقت إلى "عقيدة" و "مبدأ أخلاقي عند البعض. خطورة هذه العبارة في كونها أنها أصبحت مبدئاً تشكلت حوله قيم "المصالح الذاتية" التي صار يتبعها أشخاص من أجل الوصول إلى أهدافهم الخاصة مهما كان ثمن هذا الوصول، فالغاية هي الأصل الذي يجب أن يتحقق مهما كانت الوسائل المتبعة لتحقيقها، فمثلا أن يقوم بعض أعضاء مجلس إدارة هيئة مهنية بشراء أصوات منتخبيهم عن طريق تجديد اشتراكاتهم أثناء الانتخابات وإهمالهم بشكل كامل بعد فوزهم بالانتخاب، مبرر جدا بالنسبة لهؤلاء، لأن الغاية هي الوصول لمجلس الإدارة، ومهما كانت الوسائل التي اتبعوها فالنتيجة النهائية هي المهمة. كما أن "تضارب المصالح" الذي نشاهده في كثير من مؤسسات الدولة، التي تجعل كثيراً من المشاريع الحكومية تدور في فلك بعض المسؤولين، مبرر بل ضروري في عرف هؤلاء، "فجحا أولى بلحم ثوره". وعندما نجد أن منطق العلاقات الاجتماعية بين الناس تحول إلى منطق "المصلحة" لا منطق "التعارف" و "التحاب" سوف نشعر بالتبدل الكبير في علاقتنا الإنسانية التي كانت تشكل منظومتنا الأخلاقية. ربما تنطلق هذه المبادئ التي يتبعها بعض "التبريريين" من عبارة "ميكافيللي" "أن الرغبة في تملك الأشياء أمر طبيعي وعادي جدا. ومن يستطيع تحقيق ذلك يمدحه الناس ولا يلومونه، ولكن من يريد التملك ولا يستطيع تحقيقه فإنه يود أن ينجح مهما كلفه الأمر فيقع في أخطاء ينال عليها لوم كثير". في اعتقادي أن هذه العبارة تشرح واقعاً نعيشه بشكل لافت للنظر، فمن يملك يكون في صدارة المجالس، ولا أحد يهتم كيف ملك ولا أحد يسأل "من أين لك هذا"، فقد تحققت الغاية ولا يريد أحد أن يشغل باله بالوسائل التي حققت تلك الغاية. والذي يبدو لي أننا نمر بأزمة أخلاق حادة ، نتيجة لهذا المبدأ الذي هيمن على مجتمعنا بشكل غريب خلال العقود الأخيرة، إذ لم يعد العمل بجد واجتهاد يوصل لأي غاية، بل قد يؤدي إلى أن يعيش الإنسان على الهامش وأن يشعر بالتقصير والذي يبدو لي أننا نمر بأزمة أخلاق حادة ، نتيجة لهذا المبدأ الذي هيمن على مجتمعنا بشكل غريب خلال العقود الأخيرة، إذ لم يعد العمل بجد واجتهاد يوصل لأي غاية، بل قد يؤدي إلى أن يعيش الإنسان على الهامش وأن يشعر بالتقصير رغم أنه في غاية الاجتهاد، وستلومه أسرته والمحيطون به، لأنه لم يصبح انتهازياً وطفيلياً ومتسلقاً، سيلومونه لأنه لم "يملك" ما لا يستحق، وسيدفعونه إلى "احتقار" ما يفعل حتى وإن كان يقوم بأعمال عظيمة تبني المجتمع، فلأنه لم يملك (ما لا يستحق) فقد أصبح إنساناً فاشلاً في عيون الناس. يرى "ميكافيللي" أن "عامة الناس يحكمون على الأشياء من مظهرها الخارجي"، وهذا في حد ذاته "طامة كبرى" إذ لا يكفي أن تكون مخلصا ونزيها لتستطيع أن تعيش في هدوء وسكينة وراحة بال، لأنه سيقرعك من هم حولك في كل مناسبة وسيذكرونك بفشلك الذريع لأنك لم تتبع كل الوسائل الممكنة كي تحقق أحلامك، سيلومونك على النزاهة والاجتهاد، ويؤكدون لك أنك لم تستطع أن تقتنص الفرص، لأنك إنسان خامل. سبحان الله كيف تبدلت الأمور وكيف انقلبت النظرة للنجاح، وكيف أصبحت "العصامية" أسطورة يمكن أن نقرأها في الروايات فقط. كنت في العاصمة الأردنية في مطلع الأسبوع الفائت وكنت أتحدث مع بعض الزملاء عن انحدار التعليم في الجامعات العربية، وكان التركيز على "تراجع الأستاذ الجامعي" كمدخل للموضوع، لكن الحديث قادنا إلى الفضاء السياسي والاجتماعي الذي يعيشه العالم العربي اليوم، لأنه فضاء يحث على الوصول إلى "الغايات الفردية" مهما كانت الوسائل التي يتبعها الأفراد، لذلك فقد أصبح الاجتهاد في التعليم وتقمص دور الأستاذ المخلص المتفاني في تعليم الطلاب والبحث العلمي، مجرد مظاهر خارجية، لأن الناس ليس لهم إلا الظاهر، خصوصا وأن المؤسسة التعليمية لا تقيم الأساتذة حسب اجتهادهم بل حسب ولائهم وانصياعهم لثقافة المؤسسة، ومن يكون ولاؤه للطلاب يصاب بخيبة أمل كبيرة وسيجد نفسه على الهامش لا قيمة له داخل المؤسسة التي يعمل فيها. المصيبة الكبرى أن يتفشى مبدأ "الغاية تبرر الوسيلة" في المؤسسات التعليمية، فيحول الأساتذة إلى مجرد حملة للدكتوراه وأصحاب مناصب، فالدكتوراه أصبحت وسيلة للمنصب لا وسيلة لاكتساب العلم وتعليمه فمبدأ "خيركم من تعلم العلم وعلمه" اختفى تقريبا وعلى نطاق واسع من قاموس المؤسسة التعليمية العربية. الغاية بالنسبة للأساتذة لم تعد التعليم بقدر ما هي الوجاهة والوصول إلى مناصب الدولة الرفيعة. سؤالي دائما، كيف تشكل هذا الخلل بيننا، ونحن مجتمع يسعى إلى التكامل والتكافل والتواضع والالتحام مع الناس، وديننا يدعو إلى الحقوق واحترامها وتأكيدها على المستوى الفردي والجماعي. ما يؤكده "ميكافيللي" أن مساحة الشر أكبر عند البشر من مساحة الخير، وأن نزعة حب الذات التي تقود إلى الرغبة في التملك، هي نزعة فطرية غالبة، لذلك أصبحت الأخلاق مسألة مهمة في حياة البشر، فخير البشر رسولنا الكريم (عليه أفضل الصلاة والتسليم) قال إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق. ومع ذلك فأنا لا أدعو إلى "مدينة مثالية"، فكل تلك الدعوات ظلت مجرد أفكار، لم تتحول إلى واقع في يوم، ولكن لا يعني هذا أن نستسلم للواقع، فكل مجتمع يمر بمراحل وظروف تصنع فضاءه الأخلاقي مرحليا لكن لابد في النهاية أن يسعى إلى التصحيح والعودة إلى "مكارم الأخلاق"، فأنا شخصيا غير مؤمن بأن الإنسان يسعى إلى الشر بل هو "خير" في داخله، ويحتاج إلى الوسط الذي يحث على "الخير"، ولعل هذا يتطلب تطوير مؤسسات "أخلاقية" تقف في وجه الوسائل الغير مشروعة التي يتبعها البعض لتحقيق غايات قد تكون مشروعة، لذلك من الضروري أن نفكر في تهذيب الوسائل من خلال تحديد الغايات النبيلة، لأن التنافس على الغايات المادية يصنع الوسائل الغير المشروعة والتي بدورها تصنع فضاء اجتماعيا مشحونا ومحتقنا، كل هذا يحتاج إلى فضاء مجتمعي يمكن من التنافس الشريف ويرفع من قيمة "المنجز الذاتي" الذي يتحقق عبر وسائل واضحة تساهم في بناء المجتمع.