تداخلت الأحداث وتزاحمت التفاصيل، بينما راح المسن عبدالله محمد العايدي (77 عاما) يستعيد رحلة التشرد من قريته الاصلية (جراملة) القريبة من رأس العين، قضاء يافا ليستقر به المطاف في قرية دير غسانة شمال غربي رام الله. تحت شجرة جوز ظليلة جلس العايدي بكامل ذاكرته وذكرياته، ليروي ل"الرياض"، قصة أرضه التي غادرها فتى في مقتبل العمر، لكنه لا يزال مسكونا بالحنين للعودة اليها فيصلي ركعتين ويمرغ وجهه في ترابها ويموت هناك..". عبدالله العايدي "ابو رائد" واحد من لاجئين كثيرين، آثر الاستقرار في قرية تشبه في هوائها وسكينتها قريته التي اقتلع منها- وان كان "لا يساوي الوطن اي مكان في الدنيا"- على العيش في المخيمات التي اقامتها وكالة الغوث الدولية لايواء مئات الاف المشردين الفلسطينيين. "غادرنا الجراملة على وقع المعارك والمناوشات التي وقعت في منطقة راس العين وعمليات القصف التي قامت بها العصابات الصهيونية.. ووصلنا حتى واد صريدا في محيط دير بلوط الحدودية، بحثا عن الماء حيث كنا نملك 40 راس بقر اخذناها معنا، وبعد ايام توجهنا الى دير غسانة حيث يوجد بعض المعارف، وفيها كان المستقر". ويضيف: بخلاف غيري من اللاجئين اشتريت هذه الارض (مساحتها دونمان) في العام 1954، وبنيت فيها بيتا، ومع ذلك فلم اشعر يوما ما انها قد تمنعني من العودة الى قريتي جراملة.. وفي 67 عندما كان أحمد سعيد مذيع "صوت العرب" يردد عن الانتصار المبين، كنا نرقب من جبل "الخواص" (تلة مرتفعة في دير غسانة تشرف على الساحل الفلسطيني المحتل)، الطائرات الاسرائيلية تحلق عبر الوديان معتقدين أنها عربية، وقلت لمن حولي ان اول ما سافعله بعد انتهاء الحرب هو انني سأعود بثيابي واقيم في خيمة على ارضي.. ولكن !". مريم صالح ذاكرة صبية في الثالثة عشرة مريم سليمان مصلح (75 عاما) من قرية دير طريف قضاء يافا، انتهى بها المطاف هي الاخرى في قرية بيت ريما المجاورة، هاجرت اليها مع اسرتها وفيها تزوجت وانجبت ثمانية من الابناء والبنات، لكن والديها واشقاءها انتقلوا للعيش في مخيم قدورة برام الله ومنهم من استقر في الاردن. لم تكن السياسة هي ما يشغل بال فتاة في الثالثة عشرة من العمر، لتعرف في حينه ما ينتظرها واسرتها وابناء قريتها ومعظم سكان الساحل الفلسطيني، فمضت حياتها بهدوء في البيت الحجري وبستان البرتقال والارض المزروعة بالمحاصيل الشتوية والصيفية، حتى حلت بهم "النكبة"، وخسروا كل شيء ، البيت والبستان، وراحة البال. وتتذكر العجوز مريم "أم هاني" في حديث ل"الرياض" قائلة: كان موسم قطاف البرتقال مثل العرس، يأتي تجار بسياراتهم ومعهم عمال، ينهمكون في صناعة صناديق الخشب وفي لف حب البرتقال بالورق قبل ان ينقلوه الى يافا. كنت ايضا أحمل البرتقال في "خرج" على الحمار واذهب الى "كامب الوسطى" الذي يسكنه اليهود وكانوا يشترونه مني. "في ذلك اليوم هجم اليهود على الطيرة فهرب أهلها وبلغنا انهم يزحفون باتجاهنا وانتشر الرعب بين الجميع، وسارع الجميع الى مغادرة بيوتهم، والبعض ترك أطفالهم خلفهم، مثل يوم القيامة، كل واحد يريد ان ينجو بنفسه ولا يعرف عن الآخر شيئا". وتضيف "خرجنا ومعنا الحمار والبقرة، وأخذنا معنا بعض الطحين ، وفي الطريق سقط الوالد عن الحمار، وعندها قرر العودة الى البيت، اما نحن فواصلنا المسير حتى وصلنا الى حقول الزيتون في قرية جمالة، وهناك اقمنا عدة ايام وهناك انضم الوالد الينا واخبرنا كيف شاهد بنات صغيرات يستغثن في خيمة فبقي عندهن حتى جاء اليهود وطردوه قائلين "هيا الى الاردن". "ومن جمالة الى قرية عين يبرود اقصى شرق رام الله بواسطة سيارة وفيها استقرت العائلة شهرا كاملا وعندها تردد ان الجيوش العربية سوف تعيد البلاد فعدنا باتجاه الغرب بانتظار العودة واستقرينا في قرية بيت ريما، حيث تجمع اهالي عشرات القرى الساحلية".