تميزت بداية العام الجديد والعقد الجديد بحدث وضع البداية لتشكيل التكوين الجديد للفضاء الاقتصادي والسياسي للمجموعة الاقتصادية الأوروآسيوية ورابطة الدول المستقلة، وكذلك الاتحادات التكاملية الأخرى. ومنذ 1 يناير 2010 دخل مرحلة الأداء الفعلي الاتحاد الجمركي للدول الثلاث - كازاخستان وروسيا وبيلاروسيا (روسياالبيضاء). ويمكن وبكل بوضوح القول ان الاتحاد الوليد هو نتيجة لتجسيد مبادرة رئيس جمهورية كازاخستان نور سلطان نزاربايف لبناء فضاء أوروآسيوي موحَّد مع الهياكل المؤسساتية المناسبة، ففعلياً مباشرة بعد الأزمة "الآسيوية" في نهاية تسعينيات القرن الماضي، وتحديداً في مارس 1994، داخل أسوار جامعة لمونوسوف الحكومية بموسكو طرح مبادرة إنشاء الاتحاد الأوروآسيوي. وشأنها شأن جميع ابتكارات رئيس دولتنا، استندت هذه المبادرة إلى دراسة الخبرات الدولية، والتحليل الوافي للجدوى الاقتصادية، فمن المعروف أنه في عالم اليوم هناك حوالي 50 اتحادا تكامليا في كل من أوروبا وأمريكا الجنوبية وجنوب ووسط أفريقيا، تشكلت تبعاً للحالة السياسية على أسس مختلفة، إلا أنها كانت دوماً مربحة ومفيدة. في القرن الثالث عشر كانت هناك الرابطة الهانزية التجارية الكبرى. وفي القرن التاسع عشر، ومن خلال الاتحاد الجمركي، أسس المستشار بسمارك ألمانيا. ونذكر جميعاً أن عملية إنشاء الاتحاد الجمركي الأوروبي بدأت مع التوقيع في عام 1957 على معاهدة الاتحاد الأوروبي، ومع الإلغاء التدريجي للرسوم الجمركية والضرائب ذات الأثر المماثل. وبعد عام 1968 بدأت عملية التخلص التدريجي من الرقابة الجمركية على الحدود بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، والتي استكملت في عام 1993، ثم ظهرت العملة الموحَّدة التي كانت قبلها وحدة حساب موحَّدة. وبشكل عام استغرق بناء الاتحاد في أوروبا ما يقارب 40 عاماً. تم تشكيل الاتحاد الجمركي في مهلة قصيرة للغاية، فقد قطعت كل من روسيا وكازاخستان وبيلاروسيا طريق تشكيل الاتحاد الجمركي بفترة 15 عاماً، في حين تشكلت القاعدة القانونية له في غضون عامين فقط، وذلك خلافاً لآراء المشككين، الذين بالاستناد إلى التجربة الأوروبية توقعوا أن تطول العملية الأوروآسيوية لعدة عقود. لقد حدث ذلك ولدرجة كبيرة بفضل الإرادة السياسية لقادة بلداننا، والنشاط العملي لحكوماتها. تم في إطار المجموعة الاقتصادية الأوروأسيوية اتخاذ خطوات مهمة لتأسيس نظام التجارة الحرة، مما أدى إلى زيادة حجم التبادل التجاري والحجم الإجمالي للاستثمارات المتبادلة للدول الأعضاء في المجموعة. كما تم إنشاء آليات فعلية للتكامل المالي – بنك أوروآسيا للتنمية، وصندوق مواجهة الأزمات، ومركز التكنولوجيا العالية. وتجدر الإشارة إلى أن الزخم المميز، بل المفرط، للإسراع في حل المهام التكاملية مثلته الأزمة المالية العالمية التي عانت من آثارها اقتصاديات جميع البلدان دون استثناء. ويمكن بكل الثقة القول ان حقيقة تشكيل اتحاد على شكل الاتحاد الجمركي هو بحد ذاته إجراء جبار لمواجهة الأزمة. وليس هناك شك في أن العامين المقبلين سيشكلان فترة انفراج واسع. هذا مبرر تماماً، إذ يقدر الخبراء الفعالية العامة لإنشاء الاتحاد الجمركي في أكثر من 400 مليار دولار بالنسبة لروسيا، و16-18 مليار دولار بالنسبة لكل من كازاخستان وبيلاروسيا. وكما يذكر نور سلطان نزاربايف في أحد أعماله أن بهذه الخطوة بدأ في الواقع بناء سوق مشتركة يبلغ عدد سكانها حوالي 180 مليون شخص، أو بعبارة أخرى ما يعادل 60% من سكان بلدان رابطة الدول المستقلة. وتقدر الطاقة الصناعية لبلداننا حالياً بنحو 600 مليار دولار، في حين يشكل احتياطيها النفطي 90 مليار برميل، وحجم إنتاجها الزراعي 112 مليار دولار. ويُنتج على أراضي البلدان الثلاثة أكثر من 85% من الناتج المحلي الإجمالي لمجمل فضاء ما بعد الاتحاد السوفييتي. ويزيد مجموع الناتج المحلي الإجمالي للبلدان الثلاثة عن تريليوني دولار، ويتوقع نموه بحلول عام 2015 في حدود 15-18%. كل هذا يسمح لاتحادنا الجمركي بالاضطلاع بدور أحد أبرز الاتحادات التكاملية في العالم، وشغل مكانة مرموقة في نظام التنسيق الاقتصادي العالمي. لكن الشيء الأهم الذي من أجله يتم كل ذلك، والهدف الموضوع لجميع الكيانات الاقتصادية والسياسية، يتمثل في زيادة الرخاء والمستوى المعيشي، وخلق ظروف مريحة لسكان بلداننا الذين لهم تاريخ مشترك طويل، وعقلية مشتركة لم تفقد روابط الإنسانية والود والقربى. تم تقييم المرحلة الراهنة من التكامل في البيان المشترك الذي اعتمده رؤساء كل من روسيا وكازاخستان وبيلاروسيا في اجتماعهم غير الرسمي الذي عقد في ألماطى في الفترة 19-20 ديسمبر 2009، بمثابة اختراق. وذكر في البيان أن "الشيء الرئيسي الذي نريد أن نحققه هو الجودة العالية لحياة شعوبنا، وتنمية اقتصادية واجتماعية مستدامة لبلداننا.. وسيعزز الاتحاد الجمركي نمو التجارة المتبادلة، وتحسين القدرة التنافسية لمنتجاتنا، وسيفتح آفاقاً جديدة للاستثمار". وجدت هذه الأفكار صداها مع أحكام رسالة رئيس كازاخستان في يناير: "كازاخستان مشارك فعال في العمليات التكاملية في رابطة الدول المستقلة، وما إنشاء الاتحاد الجمركي مع روسيا وبيلاروسيا، الذي يدخل حيز التنفيذ في 1 يناير 2010، إلا تتويج لجميع المبادرات التكاملية الكازاخستانية. وستتمثل المرحلة المقبلة من تكامل البلدان الثلاثة في تشكيل في 1 يناير 2012 الفضاء الاقتصادي الموحَّد، وهو مستوى أعلى من التكامل، حيث ستضمن حرية حركة رؤوس الأموال والعمالة". وهذا صحيح، لأن الشيء ينبع من الآخر، فتبسيط وإلغاء العديد من الإجراءات الجمركية يضمن تسريعا منهجيا للتنمية الاقتصادية، وإنشاء صناعات وقطاعات جديدة، وبالتالي توسيع تشكيلة السلع والخدمات، هو زيادة كبيرة في الوظائف الجديدة، وهو عمل وأجور وأموال لتنفيذ العديد من البرامج الاجتماعية، وهو استقرار، بل انخفاض في أسعار المواد الغذائية والسلع الصناعية من خلال القضاء على الرسوم والضرائب التي لا لزوم لها على الحدود. أخيراً، هو ببساطة تسهيل لحركة الناس داخل فضاء اقتصادي وإنساني موحَّد. إن الاتحاد الجمركي سيسمح بتوسيع السوق الإقليمية وحركة التصدير من الدول الثلاث من خلال إحدى أكثر الأسواق جاذبية في العالم. على سبيل المثال، كازاخستان، بامتلاكها لمخزونات ضخمة من خامات المعادن والطاقة، تسعى إلى تغيير اتجاه الاقتصاد، وذلك بتحفيز إنتاج وتصدير المنتجات الجاهزة. وبالإضافة إلى ذلك، كازاخستان هي أكبر بلد في العالم ليس له منفذ إلى البحر. وستساعد العضوية في الاتحاد الجمركي على حل هذه القضايا من خلال إقرار رسوم عبور تناسبنا. وسيتم تدفق السلع بشكل أسرع بكثير، ومن دون تأخير، وستزال الحواجز من الحدود، وهذا تسريع للعمليات التجارية، وهذه ديناميكية ابتكارية تقدمية. بالطبع إن إنشاء الاتحاد الجمركي، ومن ثم في الفضاء الاقتصادي الموحَّد، هو عملية معقدة ومتعددة الأبعاد، تتطلب تعزيز التنسيق والتعاون بين الحكومات، وإدارات الجمارك والضرائب والنقل وغيرها من الإدارات في البلدان الأعضاء. ومن أجل ذلك تم إنشاء لجنة الاتحاد الجمركي التي منحت منذ 1 يناير 2010 صفة الجهاز فوق القومي الذي تحمل قراراته الطابع الملزم لجميع المشاركين. وبعبارة أخرى، تم نقل من نوع خاص لصلاحيات هيئات حكومية معينة للدولة إلى المنظمة الدولية المستحدثة. ولذلك فقد توجه رئيس الوزراء بشكل مسبق إلى المجلس الدستوري للجمهورية للإيضاحات بشأن توافق هذه الخطوة مع دستور البلاد. وفي نوفمبر 2009 أعطى المجلس الدستوري رأياً إيجابياً إزاء قرارات لجنة الاتحاد الجمركي ذات الطابع الملزم بالنسبة لكازاخستان، باستثناء حالات انتهاك أحكام الدستور المتعلقة بسيادة الدولة ووحدتها وشكل الحكم فيها وسلامة أراضيها وحقوق وحريات الإنسان والمواطن. كما سبق ذكره، وفقاً لأحكام الاتفاقات الدولية المعتمدة بين كل من روسيا وكازاخستان وبيلاروسيا، يقتضي الاتحاد الجمركي توحيد المناطق الجمركية الثلاث بواحدة - منطقة جمركية موحَّدة. وحدث ذلك فعلاً في الأول من يناير 2010. لن يكون في التبادل التجاري داخل هذه المنطقة على السلع المنتجة فيها، وكذلك على السلع من بلدان ثالثة المطروحة للتداول الحر في منطقتنا الموحَّدة رسوم جمركية وقيود ذات طابع اقتصادي (باستثناء تدابير الحماية ومكافحة الإغراق والتعويض). وسوف تستخدم كافة الدول الثلاث مع بلدان أخرى التعرفة الجمركية الموحَّدة وغيرها من التدابير المشتركة لتنظيم تجارة السلع. التعرفة الجمركية الموحَّدة هي الوثيقة الرئيسية التي تعتبر عنصراً بالغ الأهمية للسياسة التجارية الموحَّدة. وهي مجموعة معدلات الرسوم الجمركية المطبقة على المنتجات المستوردة إلى المنطقة الجمركية الموحَّدة من بلدان أخرى، مصنفة وفقاً للتسمية الموحَّدة لسلع النشاط الاقتصادي الخارجي. ونؤكد على أنها تنطبق على السلع المستوردة من بلدان أخرى، ولكنها لا تمس السلع المستوردة من بلدان رابطة الدول المستقلة (إذ توجد بالفعل في إطار رابطة الدول المستقلة منطقة تجارة حرة). بلغ المجموع الإجمالي للبنود السلعية للتعرفة الجمركية الموحَّدة 11214 وحدة. فيما يتعلق بالسلع التي يخطط تطوير إنتاجها وفقاً للمشاريع الاستثمارية، فإن كازاخستان تحتفظ بإمكانية تطبيق الأسعار المنخفضة لفترة انتقالية حتى الوصول إلى الطاقات الإنتاجية للمصانع التي يتم إنشاؤها. على سبيل المثال، يتم تطبيقها على منتجات الألمونيوم، ومنتجات قطاع البتروكيماويات، وبعض أنواع مواد البناء، والأسمدة المعدنية، والمنسوجات وغيرها. كذلك اشترطت إمكانية استيراد المعدات التكنولوجية، والمكونات وقطع الغيار لها من دون دفع رسوم جمركية في إطار العقود الاستثمارية. النقطة المهمة الأخرى التي ينبغي ملاحظتها هي أنه مع بدء سريان قانون الجمارك للاتحاد الجمركي بدءاً من 1 يوليو 2010 يتم إلغاء التخليص الجمركي للسلع القادمة من البلدان الأعضاء في الاتحاد الجمركي، أما بين روسيا وبيلاروسيا فاعتباراً من ذلك التاريخ يتم أيضاً إلغاء التخليص الجمركي للسلع القادمة من بلدان ثالثة والمنتجة للتداول الحر. ويبدأ تطبيق شروط مماثلة على السلع من بلدان ثالثة بين روسيا وكازاخستان بعد ذلك بعام، أي في 1 يوليو 2011. بالطبع لن تختفي الرقابة الجمركية مباشرة مع إلغاء التخليص الجمركي على الحدود الداخلية، فإلى 1 يوليو 2011 ستستمر أنواع الرقابة الجمركية، والصحية - الوبائية، والصحية - النباتية، والبيطرية، والنقل، ومراقبة الحدود، إلا أنه سيتم نقلها إلى الحدود الخارجية للاتحاد الجمركي، باستثناء مراقبة الحدود. تبقى عملية انضمام الدول الأعضاء في المجموعة الاقتصادية الأوروآسيوية إلى منظمة التجارة العالمية إحدى القضايا الملحة للتكامل، فوفقاً للاتفاقات المبرمة يفترض أن يتم الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية بشكل متزامن وبتنسيق المواقف المشتركة مع الأعضاء الآخرين في الاتحاد الجمركي. ولهذا الغرض تم تشكيل فريق تفاوضي موحد يمثل البلدان الثلاثة. وعموماً أود الإشارة إلى أن عملية إنشاء الاتحاد الجمركي وانضمام كازاخستان إلى منظمة التجارة العالمية هما عمليتان تسيران بشكل متواز، ولهما تأثير ليس فقط على نظام التجارة الخارجية للدولة، وإنما أيضاً على الاقتصاد ككل. وباختصار، العمل في هذا الاتجاه متواصل. وفي الوقت الراهن حددت في المجموعة التوجهات الاستراتيجية في مجال النشاط الدولي، وإنشاء فضاء نقل موحَّد وسوق مشتركة للطاقة وفي مجال السياسة الاجتماعية المنسقة. تشكل في العالم اليوم وضع اقتصادي متباين. من ناحية أولى، ساعدت التدابير المتخذة في الدول لمكافحة الأزمة بشكل عام على منع وقوع كارثة مالية عالمية، والتخفيف قدر الإمكان من الآثار السلبية على اقتصادياتها. ومع ذلك، عند تقييمنا للتأثير السلبي الكبير لهذه الأزمة، يجب أن نعترف بأنه لم يتم بعد بلوغ الاستقرار النهائي في الاقتصاد. أمامنا عمل كبير ومعقد من أجل التغلب على المشاكل الناشئة، والانتقال في الدول إلى مستوى جديد تماماً من تنظيم الأنظمة الاقتصادية والمالية والصناعية والإدارية. ويمثل ذلك الفكرة الرئيسية لخطاب الرئيس المذكور: تهيئة اقتصاد البلد لتنمية ما بعد الأزمة. وهناك شدد على أنه "من المهم الآن لرجال الأعمال لدينا التقييم الصحيح للفرص الجديدة، والانخراط بجدية في وضع استراتيجيات فعالة لدخول أسواق جديدة، وتحقيق ميزات تنافسية". في الخاتمة أود التذكير بكلمات رئيس جمهورية كازاخستان نور سلطان نزاربايف عن أنه "في المدى الطويل، لا يوجد بديل عن التكامل الأوروآسيوي". وهذا حق تماماً، فالاتحاد الجمركي يمثل الأساس لخلق فضاء اقتصادي موحَّد، وهو أمر واقعي تماماً. وهذا ما تؤكده الحقائق التالية: أولاً، تتمتع الدول الثلاث بقاعدة واسعة من الموارد، بما في ذلك لديها عدد كاف من العمالة الماهرة. ثانياً، هناك سوق كبيرة، إذ تتمتع كل من روسيا وكازاخستان وبيلاروسيا بدرجة عالية للاكتفاء الذاتي للاقتصاد. والشيء الأهم هو أنه يمكن أن تشكل بلدان الاتحاد الجمركي في المستقبل اتحاداً نقدياً على أساس العملة الموحَّدة. وتجدر الإشارة إلى أن الوثائق الأصلية لهذا الاتحاد تنص على إمكانية توسيعه بأعضاء جدد. واليوم نستطيع القول وبكل ثقة ان عملية تشكيل الاتحاد الجمركي اكتسبت طابعاً لا رجعة فيه. * النائب الأول لوزير خارجية جمهورية كازاخستان