لما لاحترام الأديان والرموز الدينية من تبعات إيجابية لجهة توطيد علاقة سلمية مع الآخر, فقد ناشد مؤتمر:الإرهاب بين تطرف الفكر وفكر التطرف وسائل الإعلام العالمية"تجنب التشويه المتعمد لصورة الإسلام", كما أكد على رفضه"الإساءة إلى دين الإسلام ونبي الرحمة صلى الله عليه وسلم والقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة والصحابة الكرام". ولا شك أن لهذه المناشدة وزنها في سياق العمل على توطين ودعم محاربة فكرية للإرهاب. إلا أن مثل تلك المناشدة لن تؤتي أُكُلها طالما ظلت معادلة احترام الرموز والأديان تشكو من ضعف منطقي متمثل بالتناقض بين ما هو مطلوب من طرفيها.هاهنا طرفان للمعادلة: أحدهما يتمثل بوسائل الإعلام الإعلامية وخلفها من تسير تحت كنفه العالم الغربي, المدعوين من طرف المؤتمر إلى احترام الدين الإسلامي ورموزه. أما الطرف الآخر فهم المسلمون أنفسهم الذين يجب أن يلتزموا بما يمليه عليهم الشق الآخر من المعادلة,أعني به احترام الرموز والأديان الأخرى. لذلك؛ كان على المؤتمر حتى يتجنب السقوط في فخ التناقض المنطقي, أن يحاول تضمين توصياته ما يشير- ولو ضمنياً على الأقل- إلى دعوة المسلمين من جانبهم لأن يجتنبوا التشويه المتعمد للأديان الأخرى,أو الإساءة لها بأية صورة من الصور!. وهي دعوة أو توصية لها ما يبررها في ظل ما يتوافر عليه الخطاب الديني لدينا العالِم منه والعامي من مقولات تنقصية ازدرائية تحمل في مضمونها أوضح معاني الإساءة للأديان الأخرى,التي تشكل اليوم أبرز"آخر", إن لم تكن"الآخر"الوحيد بالنسبة للمسلمين اليوم. يتعلق الأمر بمقولات من قبيل القول ب"تحريف" اليهودية والنصرانية, والإشارة إلى اليهود-مثلاً- على أنهم"إخوان القردة والخنازير!", وللمسيحيين بأنهم"عُبَّاد الصليب!". وكذلك من قبيل ما اعتاد الوعاظ وخطباء الجمعة والعيدين-وربما الاستسقاء-أن يُضمِّنوه دعواتهم من تضرع إلى الله تعالى بأن" يحصي أتباع تلك الديانتين عدداً ويقتلهم بددا!". وإذا لم تكن مثل تلك المقولات والأدعية تشويهاً وإساءة متعمدتين للأديان والرموز الأخرى,فكيف تكون الإساءة إذاً؟ وإذا كان وقع تلك الإساءات ربما سيكون خفيفاً نسبياً على الشعوب الأوروبية والأمريكية الغربية نسبة ل"تعلمُن" تلك المجتمعات, فإن وقعها لا شك أنه سيكون خطيراً وعسيرا على بقية الشعوب الأخرى التي لم تزل بعدُ"متدينة",والذين تعز عليهم أديانهم ورموزهم؛ مثلما يعز علينا ديننا ورموزنا. بل وما لنا نبحر بعيداً وتلك الإساءات والدعوات المعتدية تصل في المدى الزمني والمكاني إلى مسامع شعوب عربية تجاورنا وتشترك معنا في مشتركات عدة, وهي تدين بتلك الديانتين خاصة منها المسيحية؟ ألا تستحق تلك الإساءات ومن يصطلون بنارها من المشاركين في المؤتمر التفاتة تجعلهم يُضمِّنون توصياتهم توجيهاً- ولو على سبيل التلميح- إلى شباب الإسلام وشيبه بأن يتجنبوا الإساءة إلى رموز وأديان الآخرين, مثلما نطالبهم بأن يكفوا عن الإساءة إلى ديننا ورموزنا؟. لا سيما ونحن نتلو قوله تعالى:"ادعوا ربكم تضرعاً وخفية إنه لا يحب المعتدين". وقوله جل ذكره:"ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدْواً بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون". بل إن المؤتمر أغفل تضمين توصياته ما أعْتبِرُها توصية ضرورية يجب توجيهها إلى الداخل الإسلامي. يتعلق الأمر ب"تجريم" التنابز المذهبي بين المسلمين أنفسهم، فهو محفز قوي للإرهاب الطائفي الذي يرمي بشرره هنا وهناك في طول العالم الإسلامي وعرضه. فالمتطرفون من السنة لا يشيرون مثلاً للشيعة حينما يأتون على ذكرهم إلا بمسى تحقيري هو مسمى"الرافضة", بينما يلمز متطرفو الشيعة السنةَ بلقب"النواصب أو الحشوية". وهذا التنابز السني/الشيعي المستمر منذ ما ينيف على ألف ومئتي سنة, كان أولى بالمؤتمرين أن يولوه جل عنايتهم, بتضمين توصياتهم ما يوحي بأنه تنابز مرفوض ومنبوذ, وبأنه لا يمثل خلق الإسلام. من جهة أخرى, فقد كان لدعوات أو ادعاءات "صدام الحضارات", كمحفز قوي للإرهاب, نصيبها من اهتمامات المؤتمر, فقد تبنى دعوة" كافة العلماء والمفكرين والمثقفين في العالم أجمع إلى الوقوف في وجه دعوة صراع الحضارات، والمواجهة بين الأديان، وإثارة النزاعات والفتن العنصرية التي تستهدف الإسلام والمسلمين وغيره من الأديان السماوية". لكن الأحبة المؤتمرين عادوا فنقضوا غزلهم عندما"ناشدوا المنظمات الدولية المعنية بمكافحة الإرهاب بتجنب التعامل بمعايير مزدوجة مع المسلمين وقضاياهم العادلة", إذ إن "تديين" الصراعات السياسية والاقتصادية, ليس في حقيقته وما يترتب عليه من نتائج كارثية,إلا استلهاماً لمقولة "صدام الحضارات".فالحضارات لا تتصادم أم تتصارع إلا إذا كان منطقها الداخلي يعطيها إيحاءً أو وهماً ب"اصطفاء" ذاتي مقدس يعطيها الحق بسحق الحضارات الأخرى إن لم يمتثلوا لأدبياتها التي تحمل الحق الحصري!. "تديين" الصراعات الدنيوية من جانبنا نحن المسلمين, جعلنا نوحي لأنفسنا بأننا مظلومون ومحاربون لا لشيء, سوى لأننا مسلمون فقط. وهذا الإيحاء الذي ضمنه المؤتمر في توصياته يستجيب ضمنياً على الأقل لأبرز الدعاوى التي تستند عليها القاعدة, في أن العلاقة بين المسلمين وغيرهم محكومة بنظرية"الدارين":دار الكفر من جهة,ودار الإيمان من جهة أخرى,وأن مهمة دار الإيمان(=القاعدة) تنحصر في"جهاد" دار الكفر التي "تجاهد" هي الأخرى دار المسلمين من منطلق ديني بحت. ولم ينس المؤتمرون-وهم يتلمسون طريقهم نحو المساعدة في تجفيف منابع الإرهاب الفكري والعملي-أن يحثوا" قيادات وحكومات الدول الإسلامية على تطبيق الشريعة الإسلامية في جميع مجالات الحياة". والناظر بالعين الفاحصة الواقعية لهذه التوصية لا يملك إلا أن يتساءل عن الشريعة التي يناشد القائمون على المؤتمر الدول الإسلامية تطبيقها, أهي الشريعة في جانبها الفقهي ,أم في جانبها العقدي؟ وإذا كان المراد الجانبَ الفقهي,فهل المراد الجانب المعاملاتي منه أم العباداتي,على افتراض أن ثم فاصلاً محدداً واضحاً بين ما هو عباداتي وبين ماهو معاملاتي. وإذا كان المقصود هنا الجانب المعاملاتي وهو الأبرز ، بل ربما المقصود تحديداً بالدعوات (الإخوانية) إلى تطبيق الشريعة, فهو تراث يجب أن يُربط بمقاصده التي نزل أو نشأ من أجلها, فما يحقق منه المقاصد المعاصرة وجب تطبيقه، وما ينتمي منه إلى مقاصد ماضوية ليست قابلة بطبيعتها للتطبيق في الواقع المعاصر فيجب أن يحترم كتراث ماض لا علاقة له بمعيش الناس اليوم. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالسؤال الذي يفرض نفسه في هذا السياق هو:ما علاقة تطبيق الشريعة بجانبها الفقهي المعاملاتي -على افتراض بديهية بُعد الفقه العباداتي عن أي تماس مفترض مع محفزات الإرهاب- بمكافحة الإرهاب؟ هذا ربما يعني أن المؤتمرين قصدوا ب"تطبيق الشريعة" ما يتصل منها بالجانب العقدي ؛ وهنا تبرز إشكالية أعقد من الأولى, فإذا كنا نعلم من بديهيات تاريخ الصراع العقدي الإسلامي أن ما يتحكم بعلاقات الطوائف الإسلامية عقديا ليست العقيدة الإسلامية في أصولها الخمسة أو الستة المعروفة,التي هي محل اتفاق بين المسلمين, بقدر ما يتحكم فيها ما اصطُلح عليها "فروع"العقائد؛ كقضايا:الإمامة والمفاضلة بين الصحابة وما أشبه,والتي ترسخت في البنية العقدية الإسلامية كنتيجة مباشرة لصراعات سياسية ماضوية, أقول إذا كنا نعلم ذلك من واقع الصراع العقدي التاريخي وامتداداته المعاصرة, فأي تراث عقدي يريد المؤتمرون أن يطبَّق حتى نتمكن من كبح جماح الإرهاب؟ أهو التراث العقدي السني,أم التراث العقدي الشيعي, أم هو التراث العقدي الإباضي مثلا؟ وحتى على افتراض أن المؤتمرين حددوا تراثاً عقدياً بعينه ليطبق, فبأي قراءة يا تُرى يمكن تطبيقه؟ خاصة إذا علمنا أن التراث العقدي السني-مثلا- يتوافر على عدة قراءات مختلفة وبل متنافرة، فهناك القراءة السلفية, وهناك القراءة الأشعرية, وهناك القراءة الاعتزالية, وهناك القراءة الصوفية, وكل منها ترمي الأخرى بالبدعة, وربما الشرك والخروج من الدين!. هذا من جانب، ومن جانب آخر فحتى على افتراض إمكانية تجاهل الإشكاليات السابقة, بما فيها إشكالية التعدد المذهبي الإسلامي عقدياً وفقهيا, فلا أحد ينكر أن معظم الدول الإسلامية التي تتوجه إليها هذه التوصية تضم فسيفساء دينية، بوجود من يدينون بديانات أخرى غير الإسلام. وبالتالي فالسؤال الذي يطرح نفسه- ونحن في سياق مؤتمر فكري مخصص لمكافحة الإرهاب- هو: بأية صفة يمكن التعامل مع أولئك الذين لا يدينون بالإسلام حال تطبيق الشريعة الإسلامية ؟ هل يُتعامل معهم بموجب فقه أهل الذمة مثلا؟. وإذا أدركنا أن ثمة ديانات أخرى ليست يهودية ولا نصرانية ولا حتى مجوسية, وهي الديانة التي ألحقها الفقهاء بأهل الذمة, أقول إذا أدركنا ذلك, فبأي منظور فقهي يمكن التعامل مع تلك الديانات التي لا تدخل في حكم أهل الذمة أصلا؟ ثم ألا يتعارض ذلك كله مع أبسط أدبيات الفكر السياسي الحديث, والذي يتعامل مع سكان الدولة-أية دولة- من منظور ما ترتبه المواطنة وحدها من حقوق وواجبات, والتي هي محل إجماع دولي معاصر؟ لست هنا ضد تطبيق الشريعة, وأعوذ بالله أن أكون من الجاهلين بأهمية تطبيق نصوصها بعيدة عن التأويل التراثي. لكني أردت أن أوضح كيف يمكن لتوصية هلامية فضفاضة مثل هذه أن تثير من إشكالات كثيرة إلى حد الذي لا يمكن معه حصر الأسئلة التي تثيرها, ناهيك عن الإجابة عليها أو عن إمكانية تكييف حكم فقهي بشأنها. وبالتالي فإن مثل هذه التوصية, ربما تناغمت من غير أن يقصد مصدروها, مع دعوى القاعدة من أنها"تجاهد" لتطبيق حكم الشريعة في المجتمعات التي ارتدت إلى جاهليتها الأولى, كما هي الأيديولوجية القطبية الإخوانية!. وللمقال صلة.