العلاقة بين الإعلام والسياسة علاقة جدلية يصعب الجزم بطبيعتها أو التنبؤ بمآلاتها. ولكننا نستطيع القول بأن وسائل الإعلام لا تنقل الخبر والمعلومة فقط، ولكنها تشكل القيم وتضع أجندة التغيير المجتمعي وتصنع المؤسسات والقوانين وتؤثر في صناعة القرار بشكل منسجم مع متطلبات الوضع الجديد الذي تفرضه على المجتمعات. إن وسائل الإعلام اليوم قادرة على صنع الثورات والانقلابات المخملية دون إراقة دماء في بعض الحالات، لكنها في حالات أخرى كثيرة تستطيع تجهيز مسرح الأحداث وتسليحه وإطلاق الشرارة الأولى. الأخطر في علاقة الإعلام بالسياسة أن الأول دخل طرفا حاسما فيما أسمته الولاياتالمتحدة الفوضى الخلاقة؛ فهناك مجتمعات تطلب فرض ذلك النوع من الفوضى أن تدك حصونها بالدبابة والمدفع والصاروخ والطائرة، ومجتمعات أخرى اكتفي بدور وسائل الإعلام في خلخلتها لتهيئة البيئة المناسبة لإعادة تشكيلها في الوقت المناسب بعد أن يخلق الإعلام حاجات جديدة ويفرض واقعا مختلفا يتطلب أدوات مستحدثة في ممارسة الحكم والإدارة. فهل هذه هي وظيفة الإعلام؟ هناك جدل بين المتخصصين، فمنهم من يؤمن ببراءة الإعلام من أداء أدوار تتجاوز الإخبار والترفيه، والتعبير الحر عن الرأي، بينما يؤيد آخرون اضطلاعه بأداء أدوار تخرج عن المتعارف عليه من أجل إحداث التغيير أو التمكين له. ولأن التغيير الذي يحدثه الإعلام قد يتعارض مع المعتقدات والمسلمات والثوابت التي يؤمن بها المجتمع فإن الدول جميعها وبدون استثناء تمارس رقابة لإحداث توازن بين حرية الإعلام في ممارسة دوره، وبين حماية قيم المجتمعات وثقافتها التي تتعرض لهجوم مركز من قبل بعض وسائل الإعلام التي تهدد السلم الاجتماعي وتزعزع ثقة الناس في الثوابت. وفي عصرنا الحاضر فإنه تحت راية العولمة وحرية الاقتصاد والاستثمار العابر للقارات يدخل لاعبون إلى الساحة لديهم أجندات تتجاوز الإخبار والتسلية والتعبير الحر عن الرأي إلى إحداث تغييرات شاملة في بنى الدول الأساسية بهدف تفتيت أي مقاومة للهيمنة الثقافية التي يسعى إليها المرسل، ولدى القائمين على تلك الرسالة الإعلامية السلطة والمال اللازمان لتمكينهم من إحداث الاختراق. تلك القوى تتمثل في حكومات ومنظمات ترى أن نمط حياتها وطريقة تفكيرها وثقافتها هي الأفضل ويجب فرضها، مما يعني التمكين لها تحت سطوة وسائل الإعلام. فالولاياتالمتحدةالأمريكية على سبيل المثال تعتقد أنها أخضعت الهنود الحمر ومجتمعات أخرى لهيمنتها الثقافية وطريقة الحياة فيها عن طريق تكريس الأمر الواقع، كما أنها استطاعت فرض تعتيم شبه كامل على حقيقة حروبها في العراق وأفغانستان وسجونها السرية، وطبيعة حربها على الإرهاب بحيث تهيمن وجهة نظر الحكومة الأمريكية وروايتها الرسمية للأحداث على المحتوى الإعلامي في الولاياتالمتحدة وخارجها. خطورة الإعلام تتطلب أجندة وطنية تحدد الخطوط العريضة للممارسة الإعلامية بشكل واقعي، وترصد تأثيراتها، وتحدد معالم الأمن الوطني الذي لا يجوز المساس به تحت أية ذريعة، وفتح مجال الحوار المستمر بين القيادات الإعلامية وصناع القرار بما يضمن فهماً جلياً لأهداف الدولة وخططها الإستراتيجية، حتى نستطيع تحصين مجتمعنا ضد الإعلام الموجه، وفي الوقت نفسه نرتقي بإعلامنا إلى مستوى المسؤولية التي يجب أن يضطلع بها. سيبدو كلامي للبعض على أنه رِدة غير مبررة، ولكن من أجل هذا الوطن نكتب وفيه نتفق ونختصم، ومن أجله نجتهد، وأرجو ألا يفهم هذا على أنني أطالب بتقييد حريات الإعلاميين، ولكني أطالب من واقع المصلحة الوطنية بأن يتحمل كل مسؤوليته في هذا المجال، فالمشهد العام يستوجب الحذر، وهناك من يجب أن يقال لهم كفى.