تلوح في ذاكرتي ملامح الطفولة حينما كان لكل شيء مذاقه الأصلي ورائحته الخالصة. كنت محظوظة بالعيش في نجد المملكة وحجازها وخليجها، فقرأتْ عيني اختلافات الحياة في كل منطقة، ونما نسيج الوطن الواحد في وجداني قبل أن أتعلم الأبجدية. حلمت كثيرا بركوب آلة الزمن والسفر إلى الماضي التليد حاملة معي كانونتي (كاميرتي)؛ أحلق فوق سماء الوطن الجديد وأحط في سهوله وجباله ووهاده وأزور مدنه وقراه وألتقط الصورالملونة لكل مفردات الحياة في زمن الأبيض والأسود. وأخيرا أحط رحالي في القرية التي أنجبت أبي، عند الجبال الشامخات حيث التاريخ والأصالة في بيوت الطين، وأرى أجدادي حينما كانوا صغاراً، ألاعبهم، وأصورهم، وأعبر عن أحلامهم البسيطة. أنام معهم بعد المغيب وأصحو قبل الشروق. أحلب الشاة، وأملأ قربة الماء، وأحمل الحطب، وأوقد النار، وأتقاسم معهم شظف العيش وقسوة الحياة وبعض حلاوتها. وألتقط الصور لكل تلك المشاهد والأحداث، ثم أعود عبر آلة الزمن محملة بتراث حقيقي وصور مطابقة للأصل الذي اندثر. فكرة مجنونة.. بدأت معي حين كانت جدتي تحكي لي الحكايا الأسطورية وتخبرني عن طفولتها وتترنم بالماضي الجميل وهناءة البال رغم ضيق ذات اليد.. لا أنسى شجي صوتها وعبق دخونها وأنا أجلس أمامها ممدة إليها كفيّ الصغيرتين لتخضبهما بالحناء. كانت تحكي وأنا أسجل التفاصيل في ذاكرتي ؛ وأتمنى أن أسافر للماضي لأعيش تلك الحياة معها. وكم أتمنى الآن أن يعود الزمن لأغوص في زوايا حجرتها وألتقط الصور لكل تفاصيل خصوصياتها حيث الصندوق الحديدي المثير بحليّها وثيابها وزينتها ومرآتها المموهة. يدق قلبي قبل عقارب الساعة كلما يحين موعد افتتاح مهرجان الجنادرية لأبحث عنها وعن أجدادي هناك وأبحر في تراثهم، وأشتم رائحة صبرهم، وأتلذذ بابتساماتهم، وألتقط ملامحهم بعدستي ولكن؛ بمقدار سعادتي بوجود المهرجان الذي يحتضن الوطن في بقعة واحدة؛ يكون حزني لما يهدم ويردم ويهمل من آثارنا وتراثنا وأطلال جدودنا على امتداد أطرافه المترامية. صحيح أن المهرجان يستحضر صورا حية من الماضي؛ ولكن الأصل متروك لتبتلعه الرياح. أجدادي واراهم التراب، وبيوت الطين طمستها عوامل التعرية، وبقايا زينة جدتي طمرتها الرمال، فلم يبق منهم لا أصل ولا صورة سوى بقايا آثار. وما تبقى لن يبقى طويلا؛ فوثقوها بعدساتكم، وبرّوا أجدادكم. فيوماً ما لن تجدوا البقايا.. ولن تجدوا أجدادكم.