تعد ظاهرة الشيكات المرتجعة أو الشيكات بدون رصيد من الظواهر المزعجة والمعيقة لتطور الحياة الإقتصادية في المملكة، حيث لم يعد للشيك ثقة، وأصبح الحذر هي سمة التعامل به، ولم يعد يقبل إلا الشيك المصدق، وفقد الشيك في كثير من الحالات دوره كأداة للوفاء تقوم مقام النقود، والأسباب تعود في مجملها وبشكل رئيسي إلى غياب أو ضعف تطبيق أحكام الشيك في نظام الأوراق التجارية، حيث بلغ عدد الشيكات المرتجعة في عام 2009 فقط 160 ألف شيك بقيمة 14 مليار ريال، حسب ما صرح بذلك مدير عام الشركة السعودية للمعلومات الإئتمانية لصحيفة الرياض -27/3/1431ه-. ففي أي دولة في العالم، تستمد الثقة في الشيك من ثقة المتعاملين به من أن هناك نصوصا قانونية ملزمة وعقوبات رادعة لمخالفيها تطبق بلا هوادة تكفل للشيك كورقة تجارية الإحترام والثقة في المعاملات اليومية بين أفراد المجتمع. وفي المملكة صدر نظام الأوراق التجارية في عام 1383ه وتضمن أحكام الشيك بشكل واضح ومفصل، ومنها الأفعال (الجرائم) التي تمس وظيفة الشيك وتعيق القيام بدوره أو تزعزع الثقة به من خلال العقوبات لمخالفي أحكامه. إلا أن الذي حدث وبعد عقود طويلة من تطبيق النظام أن هناك تراخيا وتقاعسا في تطبيق أحكامه أدى إلى زعزعة الثقة بالشيك بل وإنعدامها، وذلك بشكل تراكمي على مدى تلك العقود. ورغم تعاقب وزراء على وزارة التجارة، والوعود الكثيرة من المسؤولين فيها لإعادة الإعتبار لهذه الورقة التجارية، إلا أن شيئا من ذلك لم يحدث. وبصدور قرار مجلس الوزراء يوم الاثنين 15/3/1431ه والخاص بمعالجة ظاهرة انتشار الشيكات المرتجعة لعدم وجود رصيد كافِ لها، استبشر خيراً أفراد المجتمع وجميع المعنيين بهذه الظاهرة من ما تضمنه هذه القرار من إجراءات ستكون كفيلة بإذن الله في القضاء على هذه الظاهرة وإعادة الثقة في الشيك. وفي هذا السياق نقدم قراءة قانونية لمضمون هذا القرار وكيفية تطبيقه لكي يحقق الفائدة المرجوة منه. نص قرار مجلس الوزراء على خمس خطوات إجرائية لمعالجة هذه الظاهرة، حيث نص في الفقرة الأولى منه على: (قيام صاحب السمو الملكي النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية بإصدار قرار باعتبار الأفعال المنصوص عليها في المادة (118) المعدلة من نظام الأوراق التجارية موجبة للتوقيف). ولتوضيح ذلك فإن،المادة (118) من نظام الأوراق التجارية قد نصت على ما يلي: ((مع مراعاة ما تقتضي به الأنظمة الأخرى يعاقب بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات وبغرامة لا تزيد على خمسين ألف ريال أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من أقدم بسوء نية على ارتكاب أحد الأفعال الآتية: أ)إذا سحب شيكا لا يكون له مقابل وفاء قائم وقابل للسحب أو يكون له مقابل وفاء أقل من قيمة الشيك. ب) إذا استرد بعد إعطاء الشيك مقابل الوفاء أو بعضه بحيث أصبح الباقي لا يفي بقيمة الشيك. ج) إذا أمر المسحوب عليه بعدم دفع قيمة الشيك. د) إذا تعمد تحرير الشيك أو التوقيع عليه بصورة تمنع صرفه. ه) إذا ظهر أو سلم شيكا وهو يعلم أنه ليس له مقابل يفي بقيمته أو أنه غير قابل للصرف. و) إذا تلقى المستفيد أو الحامل شيكاً لا يوجد له مقابل وفاء كاف لدفع قيمته. فإذا عاد الجاني إلى ارتكاب أي من هذه الجرائم خلال ثلاث سنوات من تاريخ الحكم عليه في أي منها تكون العقوبة الحبس مدة لا تزيد على خمس سنوات والغرامة التي لا تزيد على مائة ألف ريال أو إحدى هاتين العقوبتين)). فهذه المادة تلخص الأفعال (الجرائم) التي قد تقع على الشيك، ونظراً للأثر الخطير الذي يترتب على هذه الجريمة فقد نصت هذه الفقرة على قيام سمو وزير الداخلية بإصدار قرار باعتبار هذه الأفعال موجبة للتوقيف. فبموجب نظام الإجراءات الجزائية (المادة 112) ((يحدد وزير الداخلية بناءً على توصية رئيس هيئة التحقيق والادعاء العام ما يعد من الجرائم الكبيرة الموجبة للتوقيف)). وقد صدر قرار سمو وزير الداخلية رقم 1900 بتاريخ 9/7/1428ه والذي تضمن تعدادا للجرائم الكبيرة الموجبة للتوقيف، وعددها 15 حالة منها القتل العمد وجرائم الإرهاب والمخدرات والسطو والإعتداء على حرمة المنازل وغيرها، وبموجب قرار مجلس الوزراء فسيتم تعديل قرار سمو وزير الداخلية لكي تعد أحد الأفعال المنصوص عليها في المادة (118) من نظام الأوراق التجارية –المشار إليها أعلاه- أحد الحالات الموجبة للتوقيف لإعتبارها من الجرائم الكبيرة، وهو برائي نقلة نوعية في مجال القضاء على ظاهرة الشيكات المرتجعة وردعاً لا يستهان به. لذا فإن أي شخص يقدم بسوء نية على أرتكاب أحد هذه الأفعال، سيظل قيد الإيقاف حتى تتم إحالته إلى الجهة القضائية المختصة بالأوراق التجارية ليصدر به العقوبة المناسبة وفقاً للنظام. الإجراء الثاني في قرار مجلس الوزراء هو: ((تتولى هيئة التحقيق والادعاء العام التحقيق في جرائم الشيكات ورفع الدعوى العامة أمام الجهة المختصة بالفصل في تلك الجرائم كأي جريمة أخرى وذلك وفقاً لنظامها ونظام الإجراءات الجزائية)). وهو إيضاً تطور ملحوظ للخبرة والدراية الكبيرة التي يتمتع بها المحققون في الهيئة بالتحقيق بالجرائم بشكل عام، وكذلك لخطورة جريمة الشيك بدون رصيد على الحياة الإقتصادية، فكان من الطبيعي أن يسند التحقيق فيها إلى الهيئة –وهو المعمول به في الدول الآخرى-، وذلك بدلاً من أن يعهد الإدعاء العام في هذه الجرائم إلى موظفين في وزارة التجارة والصناعة كما هو حاصل الآن. أما الإجراء الثالث في قرار مجلس الوزراء فينص على أن ((1- على الجهة المختصة بالفصل في منازعات الأوراق التجارية إصدار قرارها في القضية التي تنظرها خلال ثلاثين يوماً من تاريخ إحالة القضية إليها. 2- على الجهة المختصة بالفصل في منازعات الأوراق التجارية العمل على تشديد العقوبات على مرتكبي جرائم الشيكات وبخاصة إيقاع عقوبة السجن والتشهير في الصحف اليومية الصادرة في منطقة مرتكب الجريمة)). يلاحظ هنا أن القرار نص على الجهة المختصة بالفصل في منازعات الأوراق التجارية، وهو نص موفق، فحالياً الجهة المختصة هي لجنة الفصل في منازعات الأوراق التجارية والتابعة لوزارة التجارة والصناعة، وبعد إنشاء المحاكم التجارية – كما جاء في قرار المجلس الأعلى للقضاء مؤخراً- فمن الممكن وبشكل كبير نقل إختصاص تلك اللجنة إلى المحكمة التجارية. كما نص القرار إيضاً على إلزام الجهة المختصة بالفصل في منازعات الأوراق التجارية إصدار قرارها في القضية خلال ثلاثين يوماً من تاريخ إحالة القضية إليها، وهنا المشكلة والتي لا أتوقع أن تجد طريقها للتنفيذ، فبعيداً عن التشاؤم وقريباً من الواقع، فإن الوضع الحالي يشير إلى أن إجراءات البت في قضايا الشيكات يستغرق فترة من 6 أشهر إلى سنة، فإبتداءً عند تقديم صحيفة الدعوى أمام لجنة الفصل في منازعات الأوراق التجارية، يتم تحديد موعد نظر الجلسة بعد 4 أو 5 شهور، وقد يحصل تأجيل يطيل أمد الدعوى، وذلك يعود إلى كثرة عدد القضايا وقلة عدد المستشارين القانونيين المختصين بالنظر في هذه القضايا. كما أن واقع القضاء بشكل عام هو التأخير بالبت في القضايا، وإستناداً إلى المعطيات الحالية فإن فترة شهر لإصدار حكم في قضايا الشيكات المرتجعة هو أمر في غاية الصعوبة والأيام ستثبت ذلك. أما النص على تشديد العقوبات على مرتكبي جرائم الشيكات وبخاصة إيقاع عقوبة السجن والتشهير، فهذا ما سيكفل الردع بلا شك، فالغرامة المالية البسيطة كما هو جاري الآن العمل به لا يفي بالغرض في حماية الشيك والثقة به. ويجدر بالذكر هنا أن قرار مجلس الوزراء لم يعدل نظام الأوراق التجارية ولم يأت بعقوبات جديدة، بل هو فقط نص على تفعيل العقوبات المنصوص عليها في النظام. ونصت الفقرة رابعاً من قرار مجلس الوزراء على: ((قيام مؤسسة النقد العربي السعودي بوضع إجراءات تنظم إصدار ورقة الاعتراض وتمنع البنك المسحوب عليه الشيك من المماطلة في إعطاء حامل الشيك ورقة اعتراض على صرف الشيك)). وذلك لحماية حامل الشيك من تقاعس البنك أو تجاهله في إصدار ورقة الإعتراض بعدم كفاية الرصيد لمبلغ الشيك، والذي بموجبه يمكن لحامل الشيك اللجوء إلى الجهة القضائية المختصة للمطالبة بحقه. وأخيراً نص قرار مجلس الوزراء على أن ((تشكيل لجنة في وزارة الداخلية تضم مندوبين من وزارات: (الداخلية، والعدل، والتجارة والصناعة، والاتصالات وتقنية المعلومات، والمالية "مصلحة الجمارك") ومؤسسة البريد السعودي، ومؤسسة النقد العربي السعودي، لدراسة تفعيل المواد الخاصة بالعناوين في نظام الأحوال المدنية ونظام الإقامة ونظام السجل التجاري وذلك بإلزام كل مواطن أو مقيم أو مؤسسة أو شركة بوضع عنوان رسمي تنتج من المراسلة عليه الآثار القانونية وأن يلتزم كل منهم في حالة تغير ذلك العنوان بتحديد عنوانه الجديد)). فعنوان أي شخص طبيعي أو اعتباري هو الوسيلة لتبليغه بالدعوى أو لمطالبته بتنفيذ الحكم، فكثير من الدعاوى يتأخر البت فيها بشكل لا يطاق والسبب تعذر العثور على عنوان للمدعى عليه أو المحكوم عليه، لذا فإلزام كل شخص بإتخاذ عنوان واضح له هو السبيل لكي تنتج الدعاوى آثارها القانونية. وختاماً نأمل أن يتم تطبيق قرار مجلس الوزراء حول الشيكات المرتجعة بجميع فقراته وأن لا يجتز أو يبتسر عند تطبيقه، فنحن في أمس الحاجة إلى استرداد الثقة المفقودة في الشيك، وأن يعود الإعتبار إليه كورقة تجارية تقوم مقام النقود في التعاملات اليومية، وخير سبيل لذلك هو تغليض العقوبة بحق كل من يرتكب جريمة إصدار شيك بدون رصيد، فإستقرار التعاملات اليومية وفق الأنظمة الحاكمة لها هو الهدف الذي لا يجب الحياد عنه. *مستشار قانوني [email protected]