صعود وسقوط الأمبراطوريات، والأمم بحث على مستويات عليا، ونشأت خلف أحداث التاريخ دراسات وعلوم دخلت عمق الاختصاصات في مراكز البحث والجامعات، وتحولت إلى جزء من ثقافة عامة تتناول حياة البشرية بمختلف أطوارها وتواريخها.. المسافة الآن ضاقت، ولم تعد الأبعاد الجغرافية عازلاً بين الجهات الأربع فإن انتقال القوة من بلد لآخر، أو قارة لأخرى بقي مصدر نزاع حتى في أوج المكتسبات الحضارية القائمة، ولعل إنشاء منظمة الأممالمتحدة ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية والصناديق الدولية والمعاهدات الدولية، لم تلغ الحروب والنزاعات عندما تشعر دولة ما أنها كسبت مركزاً جديداً في القوة لتغتصب أو تستعمر جهات بعيدة باسم المجال الحيوي، وهي الذريعة التي تم بها نهب ثروات الشعوب بوسائل القمع والاستعباد حتى تتحرك الآلة الصناعية، وتتضاعف المنتجات للأسواق الخارجية، ولتقوم طبقة مرهفة على حساب بؤس الآخرين في مجاميع وقارات أخرى.. ومثلما تعادلت القوة بين معسكري الشرق والغرب، فإن انقسام العالم بينهما فجر الحروب والاستقطاب وبقيت المنظمات الدولية مجرد غطاء تخضع لإرادة القوتين، ولذلك صار النظام الدولي لا يسوده إلا من يملك تحريك الأساطيل، أو الفوائض النقدية، أو التبشير بأيدلوجيا العدالة الكونية في إلغاء الطبقية، مقابل وجه آخر ينادي بالحرية وإطلاق كفاءة الإنسان بدون قيود ترسمها عقليات التوجيه العام داخل الأحزاب والنظم الشمولية.. لم تنجح الحلول في تسويات القضايا الكبرى والصغرى، لا من خلال الأنظمة الديموقراطية التي وضعت أسساً مثالية لحقوق الإنسان، ولا بتعميم ما طرحته الايدلوجيا المقيدة بطروحات «طوباوية» غير قابلة للتحقيق، ولا من خلال الكنائس أو الدول والامبراطوريات، لأن مصدر الحكم كان يأتي من منطلق سيادة شعب وقوة على أخرى، وهنا فقدت قيمة التطابق بين الإنسان ككائن حر وبين فلسفات طوعت نظم الإقطاع والرأسمالية والاشتراكية، والعبيد والسادة، أن تطرح مشروع الإنسان المتكافئ مع طبيعته وحريته.. فمن المحراث والمغزل إلى الآلة، وعلوم الفضاء والحواسب بقيت السيادة للقوة وليست للقانون، والدليل أن حروباً في كل مكان حتى داخل الدول المسيطرة، استعصت على الحل لأن الذرائع بحكم الدين أو الوصاية، أو الايدلوجيا لم تمنع التقاتل بالحجر أو القنبلة النووية والأسلحة المتقدمة، ولذلك لا يمكن صياغة قانون يحدث تساوياً وعدالة بالحقوق طالما الفوارق العرقية والمادية والثقافية والتقدم التقني معيار لقياس التساوي بالمصالح والعلاقات البينية.. غرائب التاريخ أن يقع أكبر مجمعين بشريين تحت نفوذ الغرب عندما أصبحت الهند والصين وامتدادهما الحضاري والإنساني، مجرد مخزون لدول الاحتلال، لتعود الصياغة من جديد بشعور الخوف والترقب لنهوض العملاقين، وهما خارج قارتي أوروبا وأمريكا، وهنا هل يصبح الشرق مصدراً لسن قوانين عدالة جديدة تتساوى فيها الأعراق والأمم، أم تعاد نظرية الحكم بالقوة من خلال القوتين الصاعدتين؟ ذلك ما سنراه في المستقبل القريب.