رغم التحولات التاريخية المتسارعة لا تزال صورٌ لزعامات تاريخية باقية على المواقع الرسمية والعملات، وتماثيل تتوسط الميادين التاريخية، ورغم أن البعض ظل دكتاتورياً، إلا أن رمزيته القومية أو الوطنية ثابتة.. مثلاً (لينين) بقي الصورة الثابتة لما بعد حكم عائلة «رومانوف» غير أن الدول التي وضعته الشخصية الأولى، وخاصة دول آسيا الوسطى، وأوروبا الشرقية التي انحسرت عن الاتحاد السوفياتي أزالت كل معالم تلك المرحلة بما فيها ما يتعلق بالزعيم البلشفي، كذلك الصين أبقت على (ماوتسي تونغ)، وكذلك الهند، وبقية دول عديدة رأت في قياداتها التاريخية امتداداً لحاضرها ومستقبلها ولا اعتراض على ذلك.. تركيا نموذج تجمع في تاريخها البطولات والتحولات الجذرية من دولة تعيش في الفراغ والضياع، إلى كيان قائم استطاع أن يُلملم أبعاده الجغرافية ويصهرها «أتاتورك» في دولة علمانية لكنها في قبضة الجيش باعتباره حارس الدولة ودستورها، ولذلك كانت أي حكومة منتخبة أو معينة من قبل الجنرالات تخضع إلى البقاء والزوال بإرادة العسكر، وقد كثرت الانقلابات وتعددت الولاءات وصارت نموذجاً هجيناً ليس في قدرتها الثبات الديموقراطي مثل الدول المحاذية لها في أوروبا، وليست إسلامية أو قومية منفتحة على تيارات سياسية واضحة الأهداف، غير أن جهاد الأحزاب، وخاصة الإسلامية منها غيّر، مع الزمن، والنضال السلمي، معالم الدولة لكنها أبقت على صورة «أتاتورك» كرمز وطني، وتعاملت مع الدستور بما يتطابق ومصلحة الظرف الراهن، ولذلك انعزل الجنرالات، وصارت المساءلة لأي تصرف يتعارض مع الدستور أو يخرقه ويتجاوزه، عرضة للمحاكمة، وهو تطور لم يكن ليحدث من حزب واحد أو عدة أحزاب، لولا أن الشعب التركي هو الذي قاد التغيير ورفض ثبات القوانين كأشياء مقدسة وفق إرادة العسكر.. نجاح الخط الديموقراطي في تركيا، هو الذي قاد النمو الاقتصادي، والانفتاح على العالم الخارجي، وخاصة البلدان العربية والإسلامية، مع الاحتفاظ بالعلاقة المميزة مع الغرب وأمريكا، وحتى إسرائيل، وهذا النجاح أسقط سطوة الجيش، وعودته إلى مواقعه الأساسية دون التدخل في الحكومة ومسارها، لكن عند مقارنتها مع باكستان، وإيران، فإن سطوة الجيش، وإن جاءت خلف نظام ديني، أو ديموقراطي هش، فإن قابلية القفز على الدولة، وتجميد مؤسساتها أمر تقرره الظروف، وليس الدستور، ونفس الأمر ينطبق على دول عربية لا يزال البعض منها يعيش هيمنة الجيش والقوى الأمنية، ولعل الفارق بين تلك الدول وتركيا أن الأخيرة أوجدت البديل الديموقراطي ضمن مؤسسات ليست قابلة للانكسار، وهو حدث لا نجده هدفاً للدول التي لا تزال العسكرة، هي النتيجة ليظل القانون تحكمه الإرادة الأحادية الجانب.. الغريب أن التطور العام وضغط الواقع المتغير، فرضا على حكومات دكتاتورية الحزب الواحد، أو النموذج العسكري، أن غيّرت من مفاهيمها، وأخذت بأسلوب التدرج من خلال جرعات متواصلة، بحيث لا تحدث الفجوات التي تخلق الصدمات أو ردات الفعل السلبية، ويبقى حزام الدول المتخلفة هو النموذج الراكد، والذي فقد حس المسؤولية، بإيجاد علاقة منسجمة بين الدولة والمواطن لتتسع المشاركة وتقاسم مسؤوليات التنمية والبناء..