في لقاء سابق بطلاب قسم الإعلام طلبت تعريفهم للخط الأحمر في الصحافة، فتعددت الإجابات واختلفت، ولو طرحنا السؤال نفسه على الإعلاميين والمسؤولين والقراء لوجدنا فيها اختلافاً كثيراً غير أن الجميع سيتفقون على أن الخط الأحمر الذي لا يمكن المساس به هو كل ما يتعلق بالدين والمليك والوطن، وفي هذا تفصيل متفق عليه أيضاً ، فالدين يتضمن كل ما يتعلق بالذات الإلهية وأحكام الشريعة من أركان الإسلام والإيمان والإحسان، وما يتعلق بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وأهل بيته وصحابته، وكل ما هو معلوم من الدين بالضرورة، والمليك بما هو رمز للحكم وللقيادة السعودية الرشيدة، والوطن بكل ما يؤثر على الوحدة الوطنية ومصالح الأمة وكرامتها، وهذه الأمور يتفق عليها أبناء هذا الوطن، أو يجب عليهم أن يتفقوا عليها وإن ند شيء من ذلك رد إليه بلطف السياسة وحسن التدبير . يأتي الاختلاف بين الناس بعد ذلك فيما سوى هذه الأمور المحسومة، وهو اختلاف يأتي من تفاوت في تقدير الأمر أو حساسيته أو ظرفه الزماني أو المكاني أو من اختلاف الثقافة، فما يكون خطاً أحمر في وقت معين قد لا يكون كذلك في وقت آخر؛ ولذلك رفع في أيام حرب الاستنزاف وحربي 67 و 73 ثم في حروب الخليج شعار لا صوت يعلو على صوت المعركة، واستخدم هذا الشعار سياسياً في بعض الأحيان لقصف الأقلام وتكميم الأفواه، لكنه كان مهماً في أحيان أخرى لتوحيد الصفوف وشحذ الهمم وإعلاء الروح الوطنية بين المواطنين، كما كان نقد بعض الشخصيات الدينية مثار جدل كبير في دخوله ضمن الخط الأحمر أو عدم دخوله فمن أدخله اعتمد على المقولة المشهورة «لحوم العلماء مسمومة» ومن أخرجه اعتمد على عبارة إمام دار الهجرة «كل يؤخذ من قوله ويرد إلا صاحب هذا القبر» يقصد نبي الأمة محمداً عليه الصلاة والسلام، وقول الإمام أحمد بن حنبل: ليس أحد إلا ويؤخذ من رأيه ويترك ما خلا النبي صلى الله عليه وسلم، وطرح هذا النقاش كثيراً في النقد الموجه إلى شيخ الأزهر والشيخ محمد الغزالي والدكتور يوسف القرضاوي وإلى بعض العلماء في بلادنا وحتى في الموضوعات الاجتماعية كقيادة المرأة للسيارة، والنقاب أو الحجاب، وشيوع المخدرات والإيدز، وكانت إلى ما قبل عقدين من الزمان من الأمور التي لا يمكن مناقشتها في صحافتنا، ومازالت هناك بعض الدول العربية إلى الآن لا تعطي أرقاماً صحيحة فيما يتعلق بالمخدرات والإيدز . في أوائل عام 2006 اجتمعت والأخ لؤي مطبقاني مع بعض قياديي المنظمة الدولية للصحافة (وان) في الرياض لمناقشة عرض تقدموا به للتدريب المشترك بين المنظمة وصحيفة الوطن وذكر أحدهم دراسة أجريت عن الرقابة الذاتية وأنها أخطر من الرقابة الحكومية في الدول النامية، ودلل على ذلك بالقصة المشهورة للفيل الضخم المقيد في حديقة الحيوان بواسطة حبل صغير ملفوف حول قدم الفيل الأمامية من دون سلاسل أو أقفاص وكان بإمكان الفيل أن يتحرر بسهولة من هذا الحبل الصغير ولكنه مع ذلك لا يتحرك، وعندما سئل مدرب الفيَلَة عن ذلك قال هذه الحبال كانت مستخدمة للفيَلَة عندما كانت صغيرة وكانت كافية لتقييدها وكبرت الحيوانات وهي تعتقد أن الحبل مازال يقيدها؛ ولذلك علقت نفسها بقناعة أنها مقيدة وفي الواقع لا يوجد هناك ما يقيدها. تميل النفس البشرية إلى الحذر والخوف من المجهول والركون إلى المألوف لأن الإلف تكرار وفيه توفير للجهد والوقت والتفكير؛ ولهذا رغَّب الشارع في الاجتهاد وجعل للمجتهد المخطئ أجراً وللمصيب أجرين، ويحاول البعض أن يسأل عن كل شيء ويستأذن في كل شيء ليجعل بينه وبين النار مطوّعاً، مع أن هناك قواعد عامة أمامه وتبقى التفاصيل متروكة لاجتهاده وتقديره، إذ ليس من وظيفة المشرّع أو القائد أن يدخل في أدق التفصيلات وهذه القاعدة تسري حتى على موضوع الخطوط الحمراء. بعد أن استقر الأمر للباني المؤسس الملك عبدالعزيز - يرحمه الله - في الحجاز استقبل في إحدى الليالي الشيخ محمد حامد الفقي وكان وقتها رئيس شعبة الطبع والنشر بمكة المكرمة وأبدى للملك عبدالعزيز رغبته في إصدار صحيفة دينية علمية تضم صوتها إلى صوت المصلحين لأن اتساع دائرة الفساد وكثرة جيوش المفسدين يدعوان دائماًإلى إمداد جيش الإصلاح بجنود وعتاد، فقال له الملك عبدالعزيز مجموعة من المبادئ العامة تعد أساساً قامت عليه سياسة النشر في المملكة على مدى يزيد على الثمانين عاماً، وكان مما قاله يرحمه الله: يجب أن يكون العمل خالياً وبعيداً عن التحزب والتحيز والعصبية الجاهلية التي أدت في كثير من الأوقات إلى خصومات ومنازعات، ثم إلى سباب وفسوق، ثم إلى قطيعة وتشتت، وذلك هو أكبر عدو للإصلاح، وأن نقدم في سيرنا إلى الله إماماً وهادياً محمداً - صلى الله عليه وسلم - وكتاب الله لا نقدم بين يديهما أحداً، والسلف الصالح هم المثل العليا والمصابيح المضيئة، والمؤمنون إخوة نحب لهم ما نحب لأنفسنا ونكره لهم ما نكره لأنفسنا من معصية وفسوق وبُعد عن طاعة الله، وأن اللين ما كان في شيء إلا زانه، وما كان العنف في شيء إلا شانه، وأفضل السبل في الدعاء بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، وأن نتحدث إلى الناس بما يعرفون حتى نمهد به للتحدث إلى ما نسوه من طول البعد عنه، ومقادير الرجال تظهر باتباعهم للحق أو الباطل، وألا تتعرض الصحيفة للشؤون السياسية العامة أو الخاصة وأن تتجنب كل ما يثير النزاع والخصومة بين المسلمين وأن يكون على الإجمال شعارها الاعتصام بما كان عليه الرسول من علم وأدب وأخلاق، ثم ختم حديثه بقوله : «إذا سلكت الصحيفة هذه الطريق الحكيمة كان حقاً على كل مخلص أن يقدم لها كل ما يقدر عليه من مساعدة مادية وأدبية وأنا أول المساعدين على ذلك» . لم تتغير هذه القواعد العامة التي حددها الملك عبدالعزيز منذ عام 1347ه كما لم يتغير دعم أبنائه من بعده مادياً وأدبياً حتى صار الإعلام السعودي من أكثر الوسائل الإعلامية في المنطقة تطوراً وتأثيراً وانتشاراً، وإذا كان عدم الخوض في الشؤون السياسية أمراً مطلوباً وقتها لأن الدولة كانت ناشئة وتوحيد البلاد تحت لواء المملكة هو الهدف الأسمى، فإن الأمر فسح بعد أن قويت شوكة الدولة واستقرت أركانها، وبقيت بقية القواعد العامة علامات هادية في عالم الطباعة والنشر، كما تركت التفاصيل لتقدير الإعلاميين حتى لا يتحولوا إلى فيلة تخشى من الحبال الصغيرة.