لم نفق من صدمة سقوط مئذنة جامع تاريخي في حي (باب البردعاين) في مدينة مكناس يوم الجمعة (5 ربيع الاول) أثناء الصلاة ووفاة 41 وإصابة 76 حتى أعلن رئيس الوزراء الاسرائيلي (بنيامين نتينياهو) عشية الذكرى 16 لمجزرة الحرم الابراهيمي بمدينة الخليل بضم الحرم الابراهيمي للائحة المواقع الأثرية الإسرائيلية في تحد سافر لكل المشاعر العربية والإسلامية حتى على مستوى التوقيت. والحقيقة أنني شعرت أن "العالم العربي" ينهار "تراثيا" و "تاريخيا" نتيجة الإهمال أو نتيجة الضعف السياسي والاقتصادي العام. لكل حادث مغزاه فسقوط المئذنة وفي وقت صلاة الجمعة والمسجد مكتظ بالمصلين وهذا العدد الكبير من الضحايا يؤكد على الإهمال الكبير الذي تعانيه المناطق التاريخية وسط المدن العربية والإشكالات التي قد يواجهها التراث العمراني التاريخي في المنطقة العربية الذي قد يتحول مع الوقت إلى مصدر خطر كما حدث في جامع مكناس، يمكن مشاهدة هذه الحالة كثيرا في العديد من المدن العربية التاريخية، ففي القاهرة نفسها احترقت "المسافر خانة" والعديد من المباني حتى أن الروائي المصري كتب حول "استعادة المسافر خانة من الذاكرة". والحقيقة أن تعاملنا مع تراثنا لا يقارن مع تعامل الغرب، فلا غرو إذن أن تقوم إسرائيل بإدراج الحرم الابراهيمي على لائحة التراث الاسرائيلي، لأنها تعلم يقينا أن أمة لم تستطع المحافظة على تراثها الذي تملكه وتسيطر عليه لن تصرف وقتا طويلا على منافحتها وخوض حرب ثقافية وسياسية من أجل مبنى تاريخي. المباني التاريخية تتساقط في أرجاء العالم العربي وتخلف ضحايا ولا احد يكترث بها فهل سيكترثون بالحرم الإبراهيمي وهو تحت الاحتلال. قبل فترة كتبت حول "تهويد القدس" وتحدثت بمرارة عن تدمير البيوت العربية التاريخية والخطة الإسرائيلية الممنهجة لتهويد "الاقصى" ولم يكترث أحد لأن آخر همنا هو تراثنا وتاريخنا رغم علمنا يقينا أن هويتنا مناطة بمحافظتنا على هذا التراث. الحرم الإبراهيمي الذي يعد أهم رابع مسجد في الإسلام (بعد الحرم المكي ومسجد الرسول والأقصى) يهوّد ويدرج ضمن لائحة التراث الاسرائيلي دون أن يحرك أحد ساكنا، لأنه لا يوجد عمل "ممؤسس" يمكن أن تتحرك منه النخب الثقافية والسياسية في العالم العربي للمحافظة على تراثها وتاريخها. إنها اجتهادات "أبناء الخليل" ومظاهراتهم التي لن تدوم طويلا وستخلف بعض الضحايا، هكذا علمنا التاريخ في كل مناسبة نشعر فيها بالقهر، فلا حراك مؤسساتي ولا عمل ممنهج. تفكك يغري العدو بالتهام الفريسة دون تردد. ما يحدث في الخليل وما يحدث في القدس هو الذي سيجعلنا نخسر فلسطين للأبد. لقد شاهدت مؤخرا الفيلم المصري (أولاد العم) وهو فيلم "مخابراتي" على نفس المنوال الذي عهدناه في كثير من القصص المصرية المخابراتية السابقة الجديد هنا أن الفيلم تم تصويره في تل ابيب، والحقيقة أن أكثر شيء آلمني هو كيف تبدو تل ابيب مقارنة بالمدن العربية من حيث التنظيم والنظافة واحترام القانون، وكيف أن هذه المدينة تحتفي باللغة العبرية في قلب العالم العربي فكل اللوحات مكتوبة بالعبرية (حتى لا توجد لوحات إنجليزية كما نفعل نحن فضلا عن العربية التي أصبحت غريبة في ديارها) . ما أحزنني في هذا الفيلم هو عبارات الأمل التي تقول إننا سوف نعود لكن ليس الآن، متى إذن لقد مرت ستة عقود ويمكن أن تمر مثلها دون بوادر أمل، بل نحن من سيء لأسوأ. نخسر اليوم الحرم الابراهيمي تحت سمعنا وبصرنا ولا نملك إلا أن نستسلم لما تمليه إسرائيل علينا. المشاهد الساحرة التي صورها الفيلم للطبيعة الفلسطينية الخضراء والبلدات الصغيرة المتناثرة على السهول الممتدة تبعث على البكاء، فكيف ضيعنا كل هذا ولماذا نقبل أن نضيّع المزيد. ما يشعرني بالارتياح أحيانا هو أننا سنظل مهما طال بهم البقاء بيننا وأنهم سيغادرون في يوم ما. كما أنني أشعر بالراحة أكثر كلما شاهدت العمارة الاسرائيلية المعاصرة التي تأثرت بعمارة فلسطين، فلم تستطع هذه العمارة أن تتفلت من المحلية الفلسطينية التي تعتمد على الحجر، ما ينتج من عمارة في كل المدن المحتلة هو نسخة معدلة وربما مطورة من العمارة الفلسطينية المحلية. ولن أستغرب ابدا إذا ما قامت إسرائيل بتسجيل هذه العمارة على أنها عمارة تاريخية يهودية وربطتها "بعيد الفصح" عندما خرج اليهود من مصر في عهد موسى عليه السلام. لقد قابلت أحد أهم المعماريين الاسرائيلين الكنديين عام 2005م في مدينة إسطنبول على هامش كونجرس المعماريين العالميين وهو المعمار (موشيه صفدي) الذي ينتمي لمدينة حلب السورية وقابلت افراد أسرته الذين يتحدثون العربية ويحنون لمدينة حلب (وأتمنى أن يكون حنينهم هذا ليس حنينا استعماريا كعادة اليهود)، هذا المعماري قام بتصميم مجمع سكني في (مونتريال) في كندا ووظفت فيه المحلية الفلسطينية بحرفية عالية حتى أصبح أهم المشاريع التي بنيت في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. من يشاهد عمارة إسرائيل في الوقت الراهن لن يفرقها كثيرا عن عمارة البلد المجاور (الأردن)، ويبدو أن اليهود لن يستطيعوا التفلت من قبضة الثقافة العربية المهيمنة كوجود وكجغرافيا لا كجهود من قبل العرب أنفسهم، لذلك هم يعملون وبشكل منظم وعلى المستوى الدولي لنسب كل ما يستطيعون نسبه من هذه الثقافة لهم، خصوصا أنهم يعلمون مدى الفراغ المؤسساتي الموجود في العالم العربي. لقد بدأوا مبكرا في هذا العمل وهم ينجحون في إقناع المؤسسات الدولية برأيهم فهم مجتمع منظم يعمل حسب أصول علمية ومنهجية ونحن نكتفي بأن نتفرج عليهم وهم يسرقون ثقافتنا التي لم نعرف كيف نصونها أصلا. ما يحدث في الخليل وفي القدس وفي البلدات الفلسطينية الأخرى هو تهويد للتراث العربي ولعمري أنه أخطر من الاحتلال نفسه الذي يمكن في يوم أن ينجلي، أما الثقافة والتراث فسيظل راسخا إلى الابد. إنها دعوة للتحرك على مستوى المثقفين العرب، دعوة من أجل إنكار ما يحدث في فلسطين من تهويد للثقافة، فقد مر حدث القدس عاصمة للثقافة العربية وكأنه لم يمر، فنحن نحتفل ولا نعمل وهذه هي الطامة الكبرى.