لماذا تصر إسرائيل على جعل كل تلال مدينة القدس مستوطنات؟ سؤال يلح على كل عربي ويجيب عنه خالد عزب عبر 171 صفحة في كتابه «القدس...المدينة والتهويد»، الصادر حديثاً عن دار «هلا» في القاهرة احتفاءً بالقدس عاصمة للثقافة العربية للعام 2009. يستهل الكتاب بمقدمة حول برامج التوطين الإسرائيلية، مع إشارة إلى أن 30 ألف يهودي يسكنون القدسالغربية مقابل 190 ألف يهودي يسكنون القدسالشرقية علماً أن غالبيتهم من اليهود الأرثوذكس. يقول خالد عزب في مقدمة كتابه: «القدس ظلت على مدار أربعة آلاف عام رمزاً للقداسة والسلطة السياسية، وعلى امتداد هذا الردح من الزمن، دأب الذين سادوا المدينة المقدسة على تشكيل وجهها المعماري وإعادة تشكيله مراراً لتوجيه رسائل ذات دلالة على القوة الإلهية، وعلى قوتهم هم أيضاً. لذا فالمستوطنات التي تطوق المدينة، تهدف إلى طبع صورة ذهنية أن هذه المدينة مدينة يهودية وليست عربية». يلي المقدمة مدخل يسرد تاريخ عملية التهويد في فلسطين منذ عام 1948، والتي زادت حدتها واتسع نطاقها منذ حزيران (يونيو) 1967، إذ ارتكزت السياسة الإسرائيلية على محاولة تغيير طابع المدينة السكاني والمعماري بشكل بنيوي تمثل في الاستيلاء على معظم الأبنية الكبيرة في المدينة ونسف المنشآت وإزالتها لتحل محلها أخرى يهودية، كما تم الاستيلاء على الأراضي التي يمتلكها عرب وطردهم وتوطين صهاينة بدلاً منهم. ويرى المؤلف أن التهويد الثقافي والإعلامي هو أحد المحاور المهمة في مخططات تهويد القدس، لجهة أنه يمس تراث المدينة بدرجة كبيرة، ذلك لأنه التعبير الحي عن هويتها، لذا بات التراث هاجساً يمس بصورة يومية المقولات اليهودية الدارجة حول المدينة، بل تحول أخيراً إلى قلق دائم لدى اليهود. وهم يحاولون من آن الى آخر الإجابة عن التساؤلات المطروحة أمامهم حول تاريخ القدس وتراثها ومدى يهوديتها. وللتهويد الثقافي والإعلامي صور شتى، منها التربوي، ومنها ما يمس مفاهيم ماهية القدس وحدودها، ومنها ما يتعلق بتزييف الحقائق التاريخية حول مدى قدسية القدس لدى اليهود ومنها ما يمس حقيقة الهيكل وهل له مكان ثابت مقدس يجب أن يبنى فيه؟ استعان اليهود بعلم الآثار كوسيلة لتدعيم تصوراتهم حول القدس، فاكتشاف الماضي يوفر عاملاً حاسماً في بناء الهوية السياسية أو تأكيد الحاضر، وهو ما يوفره علم الآثار لليهود، ولذا نراهم يحرصون على أن تكون جميع الرموز الوطنية الإسرائيلية مستمدة من عناصر ذات طبيعة تراثية، مثل شعار الدولة، والأوسمة والنياشين، وطوابع البريد والنقود. على الجانب الآخر ما زال العرب مغيبين في مجال الدراسات الأثرية التي تتعلق بفلسطين خصوصاً في عصور ما قبل التاريخ التي يركز عليها اليهود حالياً لإثبات وجودهم في فلسطين عموماً والقدس خصوصاً. بل إن التركيز على تراث المدينة الإسلامي لم يخرج عن الحرم القدسي، ولذا بات من الملح الاهتمام بهذا المجال كجزء من الخطاب السياسي الإسلامي والعربي الخاص بالقدس، فوضع خريطة طبوغرافية لتطور عمران القدس من عصور ما قبل التاريخ حتى العصر الحديث أمر حيوي، خصوصاً إذا أردنا الحديث عن ملكيات الأوقاف الإسلامية في المدينة التي استولت عليها إسرائيل. ومع توافر الوقفيات الأيوبية والمملوكية والعثمانية بات من السهل توضيح عمران المدينة في هذه العصور وملكيات الأراضي والمباني فيها وفي المناطق المحيطة بها والتي أصبحت اليوم جزءاً لا يتجزأ من المدينة. إن هذا العمل لا شك سيكون مفيداً للباحثين وللسياسيين وهم يتحدثون عن المدينة كجزء من مقدسات المسلمين وأملاكهم التي لا يجوز التنازل عنها. ويؤكد المؤلف «إننا نستطيع من خلال وثائق القدس وآثارها المعمارية الإسلامية والمسيحية التي ما زالت باقية إلى اليوم رسم صورة متكاملة للقدس في العصور المختلفة، وتحديد ملكية أراضيها، خصوصاً ما يقع في ملكية الأوقاف منها. ومما يساعد على ذلك أن الوقفيات وسجلات محكمة القدس الشرعية تحدد حدود كل منشأة وأبعادها والطرق التي تقع عليها ومكوناتها والأراضي التي وقفت عليها إن كانت منشأة دينية أو خيرية أو منشأة اقتصادية تدر ريعاً. إن هذه الخريطة الطبوغرافية التاريخية ستساعد بلا أدنى شك في استرداد الأراضي التي استولت عليها سلطات الاحتلال الإسرائيلي، سواء في القدس أم في بقية أراضي فلسطينالمحتلة. لقد فهم اليهود أهمية وثائق القدس فقاموا في 18 تشرين الثاني (نوفمبر) 1991 بالاستيلاء على بعضها من مبنى المحكمة الشرعية في المدينة». إن التصور الإسرائيلي يطرح القدس وكأنها مدينة خالية من البشر والعمران. هذا التصور عكسته إحدى دور النشر الغربية حين نشرت كتاب ديفيد روبرت «الأرض المقدسة». وديفيد روبرت هو رحالة اسكتلندي رسم الكثير من اللوحات لمصر وفلسطين بين عامي 1838 و1839 وسجل مع هذه اللوحات انطباعاته عن الأماكن التي مر بها. وإلى هذا الحد الأمر ليس فيه ما يثير أي تساؤل إلا أن دار النشر التي أعادت نشر اللوحات عام 1990 وتعليقاتها تمر من دون أن ترفق بها سرداً تاريخياً للأب كروللي لا يمت لعلم الآثار بصلة قدر ما يمت بصلة قوية إلى الرائج من روايات العصور الوسطى وخرافاتها، ففي وصفه لا وجود للعرب وإنما هناك التسمية الخطأ التي يتعمد بعض الأوروبيين استخدامها وهي (السرسيون) نسبة إلى السيدة سارة، ولا يرد ذكرهم إلا في سياق أنهم سبب معاناة المدينة المقدسة -القدس- تلك التي لا ترتفع معاناتها إلا مع سيطرة الصليبيين عليها! ويستند وصف الأمكنة إلى مخيلة كروللي المستمدة من روايات التوراة على رغم إثبات الدراسات الأثرية حديثاً شكوكاً واسعة حول صحة روايات التوراة حتى أن الكثير من علماء الآثار الغربيين بدأوا يصرفون النظر عن اعتماد التوراة كمرجع للأبحاث الأثرية في فلسطين لتناقض ما جاء فيها مع المكتشفات الأثرية الحديثة. وجاء الفصل الأول من الكتاب «المدينة وتراثها المعماري» ليتحدث عن المدينة القديمة، حيث تبلغ مساحة القدس ضمن الأسوار كيلومتراً مربعاً واحداً.. يشغل الحرم الأقصى الشريف ما يقارب 500×300 متر مربع في الناحية الجنوبية الشرقية، وهذه المساحة هي البؤرة الرئيسية للمدينة.. يحيط بالمدينة سور حجري مرتفع يشتمل على أبواب مفتوحة هي باب الزاهرة، وباب الأسباط، وباب العمود، والباب الجديد، وباب الخليل، وباب النبي داود عليه السلام، وأربعة أبواب مقفلة هي: الباب المفرد، والباب المزدوج، والباب الثلاثي، والباب الذهبي. يتصل الحرم الشريف ببقية أجزاء المدينة بطرق تتفرع من أبواب الحرم الشريف التسعة وتمتد بين أجزاء المدينة المختلفة ذات الوظائف المتعددة، ولم يقف اختلاف المناسيب الطبوغرافية ضمن المدينة حائلاً أمام المخطط والمصمم، حيث تم التغلب على هذه العقبة باستعمال أدراج حجرية عريضة ومريحة لتنقل الشخص من منسوب إلى آخر. تمتاز طرق المدينة المقدسة بأنها ضيقة ومخصصة للمارة وبعضها مغطى ببائكات معقودة، ونجد بعضها الآخر مفتوحاً، وبنيت المدارس والمساكن، والزوايا، والسبل للسقاية على جانبي الطريق، ومثل هذه النوعية من الطرق توفر الظلال المريحة للمشاة وتخفف من حدة حرارة الجو، وتمنع سقوط أشعة الشمس مباشرة على المارة وخصوصاً في الصيف. ويتعمق المؤلف في هذا الفصل في خصائص العمارة الإسلامية في القدس، مشيراً إلى أن جميع أبنية القدس الشريف من الحجر، استعملت في بنائها مونة الجير، فلم يكن الأسمنت معروفاً والعقود الحاملة للأسمنت معروفة. والعقود الحاملة للأسقف بنيت من الحجر أيضاً، وشبابيك الأبنية صغيرة المساحة ومفتوحة في جدران سميكة لتؤمن التهوية والإضاءة، وتمنع دخول الأشعة المباشرة في الوقت نفسه. تطل بعض الأبنية على الطريق من خلال مشربيات خشبية جميلة الصنع تساعد في تهوية البيت، وتستعمل أيضاً للجلوس والاستراحة ومشاهدة الطريق من دون أن تعرض أهل البيت إلى نظر المارة، وتتلاصق الأبنية بعضها مع بعض، وكأن القدس عبارة عن مبنى واحد متشابك الأجزاء، ومكون لنسيج المدينة الجميل الهادئ المتعاضد. تتجلى بساطة التصميم في المساكن بتوفير الساحات الداخلية المكشوفة، (الصحن أو الفناء) كما يعرف أحياناً، والتي تعد من أهم مميزات العمارة الإسلامية، كما أن النقاء الهندسي والبساطة وتأدية الوظيفة، واستعمال المواد الإنشائية المحلية والتهوية الجيدة والتجانس بين الأبنية في المدينة المقدسة كل ذلك يعد من الأسس المهمة في تطبيق فن العمارة الإسلامية، وتعد مدينة القدس مدرسة للفن المعماري الإسلامي، وتغطي مرحلة ليست قصيرة من العصور الإسلامية ابتداءً من الأمويين حتى العثمانيين. كما يقدم هذا الفصل وصفاً معمارياً دقيقاً لكل آثار القدس وأهمها: الحرم القدسي الشريف، باب الأسباط، ومئذنته، باب الحطة، ومئذنة الغوانمة، وحائط البراق، والمسجد الأقصى وقبة الصخرة، والقصور الأموية، وسور القدس، كما قدم شرحاً تفصيلياً لأعمال الترميم الحديثة التي تمت بها. وتناول الفصل الثاني بالتفصيل قضية تهويد القدس، فقد اغتصب اليهود السيادة والسيطرة على القدس على مرحلتين. في المرحلة الأولى عام 1948 استولوا على القدسالجديدة وضموا إليها المدن العربية المحيطة بها، وكان يسكن هذه المدينةفلسطينيون عرب ويهود، وقد سكنت الغالبية من أهالي القدس العرب في خمس عشرة ضاحية سكنية في القدسالجديدة وامتلكت ثلاثة أرباع أراضيها ومبانيها، وكانت المناطق السكنية العربية تفتقر إلى الحماية تماماً ولذا احتلت إسرائيل ثلاث عشرة ضاحية منها، وبذلك يكون من الخطأ أن نتصور أن اليهود في 1948 استولوا على الجزء اليهودي من القدس بينما فرض العرب سيادتهم على الجزء العربي، وبعد أن اجتاح اليهود الضواحي العربية في القدسالجديدة اعتدوا على المدينة القديمة وحاولوا اغتصابها عن طريق الاقتحام ودافع الفلسطينيون عنها في الفترة 14- 18 أيار (مايو) 1948، واستطاعوا درء الاعتداءات اليهودية بفضل بسالتهم وبفضل السور الضخم المحيط بالمدينة الذي بناه السلطان سليمان القانوني، وفي 19 أيار دخل الجيش الأردني القدس القديمة وظلت المدينة في أيدي الأردن حتى عام 1967، وعمل اليهود منذ أن وضعوا أقدامهم في القدس بعد عدوان 1948 على نقل أجهزة دولتهم الرئيسية من تل أبيب إلى القدس على رغم أنها تمثل من وجهة نظرهم «مدينة على الحدود في كل شيء، تنقصها القاعدة الاقتصادية الواسعة، كما تنقصها الوفرة في الأرض» إلا أنهم يهدفون إلى أبعد من ذلك. فبعد أن يحققوا أحلامهم القديمة (من النيل إلى الفرات) سوف تصبح القدس في مركز الدائرة والدليل على ذلك، أنه جاء في بعض الرسوم اليهودية القديمة 1585 تخطيط للعالم تصور صاحبه أورشليم في الوسط وقارات العالم المعروفة في ذلك الوقت حولها (أوروبا- أفريقيا- آسيا). وفي 14 تشرين الأول (أكتوبر) 1958 أرست إسرائيل الحجر الأساس للكنيست وتم بناؤه في خمس طبقات، ضاربة عرض الحائط بما اتخذ من قرارات دولية بحياد القدس، وبدا اليهود في تدعيم مركزهم في القدس حتى استولوا عليها يوم الأربعاء 7 حزيران (يونيو) 1967. في حزيران 1967 أصدر الكنيست ثلاثة قوانين أعطت لإسرائيل وحدها الحق في تطبيق القوانين التابعة لها على أي أرض ترغب في ضمها، وبموجب هذه القوانين وقعت كل من المدينة القديمة في ما بين قرية قلنديا ومطارها في الشمال وسور باهر وبيت صفافا في الجنوب وقرى طور والعزارية وعيناتا ورام في الشرق تحت حكم إسرائيل المباشر، وتم حل مجلس البلدية العربي في القدس والاستيلاء على كل ما كان في حوزته وأمواله ووثائق. وأغلقت المحاكم المدنية العربية وفرض القانون الإسرائيلي على المدينة، وأجبرت المدارس والمعاهد التعليمية على أن تطبق المناهج الإسرائيلية، كما فرض على كل الجمعيات والشركات وأصحاب المهن أن يسجلوا أنفسهم مرة أخرى لدى السلطات الإسرائيلية، وأجبرت البنوك العربية على الإغلاق وسيطرت إسرائيل على المتحف الفلسطيني، وعلى كل ما في داخله. ويكشف خالد عزب عن إحصائيات وحقائق المصادرات وطرد السكان. ويقدر عدد سكان القدس حالياً ب600 ألف نسمة منهم 500 ألف يهودي بينما لم يزد عدد العرب على 100 ألف بسبب ممارسات إسرائيل الاقتصادية والسياسية ضد السكان العرب وإجلاء الآلاف منهم خارج القدس وعدم السماح بإنشاء أبنية سكنية جديدة للعرب في القدس إلا ما ندر وخارج أسواق القدس الشريف. وذيل الكتاب بمجموعة من الملاحق التي تقدم معلومات مستفيضة للقارئ عن القدس وتاريخها، وجاء الملحق الأول بعنوان «القدس تواريخ لا تنسى»، والثاني «من أقوال قادة الصهاينة وحاخاماتهم وزعمائهم السياسيين حول القدس»، والثالث «معلومات موجزة عن الأحياء العربية خارج أسوار المدينة»، والرابع «الاعتداءات المسلحة على الأقصى». كما أرفق بالكتاب كتالوغ للصور يضم خرائط فيها تخطيط المدينة القديمة، والحرم القدسي من الجو، والمسقط الأفقي للمسجد الأقصى، وقبة المعراج وقبة النبي، وخريطة لفلسطين عام 1915، واقتراح التقسيم الذي تقدمت به اللجنة الملكية عام 1936.