يتمنى المرء في بلادنا التي أثخنت شعبها صنوف المعاناة الناتجة عن الاحتلال لو استطعنا الاستفادة من التقنيات الحديثة كي تخدمنا فيما هو أعلى مرتبة من فنون الرطانة الخطابية التي تدعي ما ليس فيها لأسبابٍ لا تخفى على أحد. هكذا يمكننا أن نعثر على مسارح ومنابر إلكترونية لا تُحصى خصصت من أجل الذم والهجاء، فيما تدعي البحث عن الحقيقة والذود عن "الحمى". ولا يعتب أحد على أصحاب هذه المنابر لو وجدوا فيها ضالتهم بما يفوق ثقافة الشتم والتعريض والتلويح والتهديد وكل ما يذكرنا ب "الشبيحة"، لأن ثقافة تقديس المصالح وغياب احترام الآخر في ظل غياب المقاييس الشامل لمن يصعدون في حالات الغفلة صارت سائدة إلى الحد الذي يجعل من هذه المنابر الإلكترونية وملتقيات التواصل مصادر أخرى لزيادة تراكم ثقافة البؤس التي يبشرنا بها هؤلاء. ولا غرو في هذا المجال لو تصفحنا الأكاذيب تلو الأكاذيب من مصادر تدعي المصداقية وحرية التعبير، فيما هي تكيد للآخرين الذين لا يمتثلون لرغباتها عبر تسويق خطابات وطنية في الظاهر ومعاكسة في الباطن. ولذا، فعلينا أن نتغلب على الملل من متابعة الأخبار الكاذبة، وأن نعمل على استكشاف موارد التشويق فيها. وأول ما نجده، وبسهولة فائقة، ارتباط هذه المنابر والمواقع التي تطلق البيانات ضد الآخرين تلو البيانات بنزعة تشويه الآخرين عبر الإيحاء بأن صلاح العالم قائم على صانعي ومطلقي هذه الأخبار العجيبة حصراً. يعني أنهم أولياء أمور المجتمع الذي يعاني من الجهل والبله لولا صراخهم العالي القمين بكشف ما نراه من مآسٍ وقصص فساد هم أول تجلياتها. ومن هنا، فليس علينا أن نفتقد ما يتمتع به غيرنا في دول الثورات العربية من "شبيحة وبلطجية" مكرسين لمصادرة حقوق الآخرين في العمل والتحرك، واختيار المواقف بما يخالف مصالح هؤلاء المقتنصين عبر أساليب الكلام المنبرية التي لا ينطلي زيفها على أحد. ومن المؤسف أن هؤلاء يؤمنون بأن البلد صارت فارغة إلا من السلالم التي تصنع أمجادهم، عبر تسويق الكلام "إلكترونياً". فحين تلجأ هذه المنابر إلى ادعاء الحداثة عبر استثمار المنابر الإلكترونية، فإن لهجاتها ونبراتها المجلجلة بكل عبارات الحق والواجب والدفاع عن "الجمهور" سرعان ما تفضح طبعها وأصلها وفصلها، وما تريد ترويجه من مصالح شخصية مغرضة تحت وَهم "الحقيقة ". هكذا نجد أن من يصنعون قوت حياتهم عبر الشتم قد وجدوا ضالتهم عبر مواقع إلكترونية تصدر إلينا ثقافة الكره لكل ما يحيط بنا، وما يوجد حولنا، على اعتبار أن استخدام التكنولوجيا هنا صار يقوم مقام مجالس النميمة والكراهية، وإنما بنجاحٍ أكبر لأن جمهوره أوسع، كما يتهيأ لهم. على هذه المواقع الإلكترونية الفلسطينية تجري حروب سوقية ضد شخصيات وطنية مرموقة ومعروفة بتاريخها النضالي العريق، وبعبارات ينقصها الأدب والاحترام، ولا يمكننا وصفها إلا بأنها عبارات الشتم من العيار الثقيل، أي تسخيف وتخوين كل من لا يعجبهم أو لا يحقق غاياتهم في "الوصول". تتجلى هذه الثقافة الوصولية على "الفيس بوك" أو على مواقع اتحادات مهنية يُفترض أن يتولاها أشخاص صالحون يحسون بمسؤولية وطنية بالحد الأدنى. ومع هذا نرى أن الموضة السائدة هي انطلاق رذاذ، بل وسيول من الشتائم والعبارات التي يربأ أي مهني جاد أو وطني مخلص من محاولة إطلاقها، وذلك لغرض واضح هو التغطية وإعماء العيون عما يُرتكب خلف الستار من تجاوزات تكشف مآل أصحابها في التعامل مع المنصب العام. هؤلاء هم أنفسهم الذين أدانوا ياسر عرفات وجرّحوه بمُر الشتيمة والقدح والذم، صاروا أول من يتمسح على محراب ذكراه، ومن يستعيرون خطاب الوطنية كي يقدحوا به شراراتهم. وهؤلاء الذين يمجدون الديكتاتور العربي صاروا أول من يتباكى على الربيع العربي والفلسطيني في الحين الذي كانوا فيه أول من قاموا بإطلاق بياناتهم ضده.