الكتابة عن الجار والجوار مهما طالت وتعددت وتنوعت وتكررت وأسهب في تناول موضوعها إلا أنه يتجدد ولا يعد مستهلكاً، وذلك لحاجة المتلقي إلى مزيد من التنبيه عليه والتذكير بأهميته، وذلك في وقت سحقت المدن الكبيرة الكثير من معالم الجوار وتغافلت عنه، أو أنه ذاب في غربتها إلى حد التلاشي فلم يعد لحقوق الجار ذلك الاهتمام وحل محلها نوع من الجفاء والعزلة والتخوف مصحوب بالحذر. وقد تناول موضوع الجار كل من سبقنا من رواة وكتاب وقصاصون ووعاظ ودعاة وعلماء ومؤلفون، ولا يخلو مجلس من إعادة التأكيد عليه في قصة أو شعر أو حكمة أو مثل، وتطرق الجميع إلى كل أنواع التعبير وكل وسيلة اتصال تقدم المعلومة لنا عن الجار وحقوقه وأهميته والواجب نحوه وضرورة احترامه وتبيان مكانته وتم ربط العناية بالجار واحترامه وتكريمه بالجود والرفعة والخلق الحسن والإيمان، والكل مجمع على ذلك ولديهم القناعة التامة في هذا الشأن، أما مخالفته فهو من العيب والعار وقلة الإيمان. كلنا يحفظ وصية الرسول صلى الله عليه وسلم بالجوار، وارتباط ذلك بالإيمان، و قد شارك الحكماء والعقلاء والأدباء فساهموا بصياغة أمثال وحكم فقالوا: [الجار ولو جار]: ويعنون بذلك الصبر على ما يمكن أن يصدر منه. و[الجار قبل الدار]: ويعنون به تخير الجار قبل البناء والسكن حتى لا يكون سببا في تنغيص حياتك، إما بعدم قدرتك على الصبر عليه أو لكثرة مشاكله وعدم تقديره للجوار. المتجاورين بحيث يتضح للجار كل ما في دار جاره حتى لو كان سرا. [جارك قدامك وراك، إن ما شاف وجهك شاف قفاك] : ويعنون به أنك لا يمكن أن تختفي عن جارك، لهذا فالمتجاورون متقاربون فيحفظوا أسرار بعضهم ويكونون سترا على بعضهم. وقد أخذ الجار مسميات تحوم حول المصطلح وتؤدي المفهوم نفسه كالقصير والطنيب وتعني التقارب في المنزل فطنب البيت بجانب طنب البيت الآخر في بيت الشعر فتقاربت الأطناب فصار طنيباً أي شريكا له في النفع والضر محتميا به ولو كانت المدة ثلاثة أيام، كما قصرت المسافة بينه وبين الآخرين فصار قصيرا وتقاصروا صار قصره بجوار قصره وتقاصرت الخطوات بينهم وتلاقوا في منزل واحد وقصرت النظرات عنه فلا تمد عليه ولا يراقب له محرم أو بيت أو عورة ولا يكشف له مخفي، كل هذه المفاهيم تلتقي مع بعضها. وهذا الاهتمام بالجار وحفظه كان في العربي خصلة وسجية قبل الإسلام وهي من المكارم التي تممها ونماها وجعل لها هدفا هو إرضاء رب العالمين ورجاء ثوابه. ومما درج وتعارف عليه الكرماء أنه يعاب على الشخص أن يخفي عن جاره زادا أو شرابا بدافع البخل عليه، كأن يأتيه ضيوف ولا يكون من بينهم الجار. يقول الشاعر: تركي بن حميد: ونجر ليا حرك تزايد عباره في ربعة ما هي بتحجب عن الجار النجر دن وجاوبه كل مرار ما لفه الملفوف من دون جاره ويعني بالربعة القسم المخصص للرجال أو ما يسمى شق البيت ، ويقابله للنساء : المحرم . فقسم الرجال مفتوح والنجر ينادي من خلال صوته كل من يسمعه. أما لف النجر فهو مذموم ويعني لفه تغطيته من جوانبه بشيء كالقماش أو غيره أو ضمه من قبل القائم بدق القهوة بحيث لا يحدث صوتاً أثناء ذلك، وهذا من البخل المذموم خاصة عندما يقصد به منع الجار، وهذا العمل غير مقبول، بل هو من العيوب، وقد صنع النجر (الهاون) بكيفية تمت الاستفادة منها للمناداة وهذا ما يلاحظ على القائم بضرب جوانبه لمزيد من إصدار الأصوات الرنانة. وفي بيت للشاعر الصقري حول الجود وصلة الجار يقول: وحناَّ لك الله من قديم لنا كار عن جارنا ماقط نخفي الطريفه ويقصد بالطريفة إطعام الجار مما يتم شراؤه من اللحم خاصة أو مما يشترى للبيت والأهل، فيصلون منه الجار ويطعمونه، فلا يخفون عنه شيئا أو يأكلون وهو جائع وهذه من صفات الكرام ومن أقرب الوسائل للألفة. ويقول الشاعر الصقري في قصيدة نختم بها باعتبار الجوار اليوم لا يدوم كما يدوم سابقاً وذلك بحكم التنقل وكثرته فلا تكاد ترى جارك إلا وقيل أنه رحل وجاء غيره، فنتذكر هذا بسلوكه وأخلاقه وهذا بأفعاله وتصرفاته فنبكي على من بانت مودته ونستريح ممن طالت عداوته وأذيته، يقول: والجار لابده مقفي عن الجار وكل بجيرانه يعد الوصيفه جار على جاره بختري ونوار وجار على جاره صفاةٍ محيفه