لا تَلُمْ كَفيِّ إذا السَّيْفُ نَبا صَحَّ مِنِّي العزْمُ و.... آَبَى في سلسلة هذه المقالات رغبت في أن يستفيد مجتمعنا مما أذكره فيها.. فلا يُحسن الانسياق وراء الانفعالات الصاخبة ضد كل فكر جديد، أو نسيء الظن بأصحاب كل عمل تطوري حديث؛ لأن سنة الحياة هي التجديد، ورقي الأمم يكون بأخذها ما يناسبها من كل عمل مبتكر مفيد. وأذكر على وجه الخصوص تلك الحملة المحمومة حين صدر القرار الحكيم من المقام السامي الذي قرره خادم الحرمين الشريفين - الملك عبدالله بن عبدالعزيز - وأصدر به أمره الكريم والقاضي بدمج تعليم البنات مع تعليم البنين، وكنت المتهم الأول بأني صاحب هذه الفكرة والساعي إليها، وكنت أقول مقولة ذلك السياسي المحنك حينما اتهم بأنه وراء قرار صدر من قيادة بلاده كان هو يراه صائباً لكن بعض الناس عارضوه بشدة فقال: (تهمة لا أدفعها، وشرف لا أدعيه).. والفضل في ذلك القرار الحكيم لجعل التعليم تحت مظلة إدارية واحدة يعود لصاحب القرار، وصاحب الفكر النير عاهل بلادنا المفدى خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - حفظه الله - وكان لي ذلك القرار مفاجأة سارة كما هي للآخرين من ذوي الرؤى الصائبة. وحين صدر هذا الأمر الملكي في أمسية ذلك اليوم المشهود 10 محرم 1423ه انهالت المكالمات عليّ من مهنئين ومن مستنكرين، وكان خبراً مدوياً ومفاجئاً - الكثير من الناس استحسنه، وقلة منهم استنكر القرار، وأخذ يهاجمه، وكان من أوائل المهنئين معالي الدكتور علي المرشد رئيس تعليم البنات (آنذاك) الذي قال لي: إني سجدت لله شكراً على أنه أعفاني من هذه المهمة. وبعد أيام قليلة من صدور القرار جمعت كبار مسؤولي تعليم البنات وتحدثت إليهم بما يطمئنهم بأن أحداً منهم لن يضار في رزقه أو وظيفته، وأن التعليم أصبح الآن أقوى وخبراته أكثر - وبتوجيه من المقام السامي ألقيتُ كلمة بثها التلفزيون السعودي والإذاعة، ونشرتها الصحف وقلت فيها: «ازدادت أهمية وسائل الإعلام في عصرنا لأنها باتت تُسهم في تكوين الاتجاهات والأفكار، وأصبحت أهم القنوت لتوصيل المعلومات والأخبار، ومنابر يعبّر منها الناس عن آرائهم ومشاعرهم ومواقفهم من مختلف القضايا. وبقدر ما تتمتع به وسائل الإعلام من صِدْق تنال من احترام الناس لها، وثقتهم بها، ولوسائل إعلامنا - بحمد الله - حظٌّ وافر من هذا الاحترام. محور حديثي هو الأمر الملكي الكريم الذي صدر يوم العاشر من محرم 1423ه والذي يقضي بدمج تعليم البنات بتعليم البنين إدارياً في الوزارة. لقد جاء هذا القرار الحكيم منسجماً مع ما تعوده مواطنو هذه البلاد من قيادتهم وما تيقنوه من حرصها الكامل على كل ما فيه النفع والفائدة للجميع، ومن حكمتها وترويها، في سياساتها الداخلية والخارجية». وواصلت حديثي قائلاً: «بعد ثلاثة أيام من صدور الأمر الكريم، عَقَدتْ الوزارة اجتماعها الشهري الاعتيادي، السّادس لهذا العام، وحضره كبار المسؤولين عن تعليم البنين والبنات، وكان مما قلته للإخوة الزملاء حينذاك: إن تعليم البنين وتعليم البنات في المملكة العربية السعودية محكومان بسياسة واحدة، جاء في مقدّمتها: «أنها تنبثق من الإسلام الذي تدين به الأمة: عقيدة، وعبادة، وخلقاً، وشريعة، وحكماً، ونظاماً متكاملاً للحياة، وهي جزءٌ أساسي من السياسة العامة للدولة». وقد جاء في المادة التاسة من سياسة التعليم: «تقرير حقّ الفتاة في التعليم، بما يلائم فطرتها، ويعدّها لمهمتها في الحياة، على أن يتم هذا بحشمة ووقار، وفي ضوء شريعة الإسلام». وإنني أحبّ أن أكرر وأؤكد للكثيرين من المخلصين الغيورين من أبناء هذا الوطن الذين نحمد لهم إخلاصهم وغيرتهم، ما يأتي: أولاً: إن ثوابتنا المستمدة من كتاب ربنا وسنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - لم ولن تتغير بإذن الله، وسندافع عنها ما دام فينا عِرْق ينبض بالحياة، فإن الدنيا لا تغني عن الآخرة، ورضا الله فوق رضا الناس. ثانياً: لن يكون هناك اختلاط بين الرجال والنساء على أي مستوى كان: مدارس البنين كافة يدرّس فيها المعلمون، ويديرها الرجال الأكفاء. ومدارس البنات كافة يدرّس فيها المعلمات، وتديرها النساء الخبيرات. والمشرفون التربويون يشرفون على مدارس الذكور. والمشرفات التربويات يشرفن على مدارس الإناث. ولن يكون هناك (أي إجراء) بأي شكل من الأشكال مخالف للثوابت من ديننا، إن شاء الله. ثالثاً: إن مناهج التربية الإسلامية هي أهمّ مكونات مناهجنا وكتبنا المدرسية، لأنها التي تنفعنا في الدنيا والآخرة معاً. لن يكون هناك تقليل من عدد حصصها بل سيتضاعف الحرص - بعون الله - على أن تظهر هذه التربية في سلوك أبنائنا وبناتنا بشكل أقوى وأوضح. هذه أولوية لن نتخلّى عنها - بإذن الله - مهما كانت الظروف. رابعاً: من الحقائق الواضحة عندنا أن للمرأة - عموماً - خصوصيةَ تختلف بها عن الرجل، وتزداد هذه الخصوصية وضوحاً عند المرأة المسلمة؛ لذا فلا بدّ للمقررات الدراسية الحكيمة أن تراعي هذه الفروق، ويبقى القدر المشترك بين الجميع في سائر المواد: كالقرآن الكريم وتجويده، واللغة العربية وقواعدها، والعلوم التطبيقية والطبيعية وفروعها. خامساً: الأمر السّامي بالدمج له أهداف حكيمة عديدة، منها: 1 - رفع جودة الأداء الإداري والتربوي في تعليم البنين والبنات على حدٍ سواء، عن طريق تكامل الخبرات، وتكاتف الجهود، فهو مزيدٌ من التنسيق، ومزيدٌ من التعاون على تحقيق أهداف مشتركة. كما قلتّ: لقد أصبح الجهازان جهازاً واحداً، فهما جناحان متساويان يطيران بالتعليم العام، ويحلّقان به في أجواء التفوق والعطاء بتوفيق الله. 2 - ترشيد الإنفاق، فحكومة المملكة العربية السعودية تنفق على التعليم بسخاء، وهذا (الترشيد) لا يعني تراجع أولوية الإنفاق على التعليم، الذي هو الاستثمار الأمثل، لأن محله الإنسان، وسيلة التنمية وغايتها إنما هدفه زيادة العائد من هذا الإنفاق. 3 - وهذا لا يعني على الإطلاق، كما سبق وأكّدت، أن أحداً سيضارّ في رزقه، أو يمسّ في وظيفته، أو يحدّ من طموحه في التفوق والتقدم والعطاء. وقلت: لقد أصبح العاملون في الوزارة أقوى بإخوانهم، ازدادوا بخبرتهم خبرة، وبجدارتهم جدارة، وبوجودهم تحت مظلة واحدة صاروا أكثر قدرة والحمد لله. سادساً: سلامة الأرواح والأبدان تأتي مباشرة بعد سلامة الأديان، لذا فلن ندخر جهداً بعون الله في سبيل تحقيقها. وسنتعاون في بذل المزيد من الجهد للعناية بأمور الصيانة، وتجهيزات ومعدات السلامة في المدارس، وتدريب الطلاب والمعلمين، والطالبات والمعلمات على حسن التصرف في الأزمات عند حدوثها - لا قدر الله. سابعاً: لقد استؤمنت الوزارة على أبناء هذا البلد منذ تأسيسها قبل خمسين سنة حين وضع قواعدها أول وزير لها، خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - فكانت محط الثقة بفضل الله، وأثبتت مدارسها جدارة يفرح لها المخلصون، وإن كان الوصول إلى الكمال متعذراً، والنقص والخطأ من الصفات الملازمة للإنسان. وستثبت هذه الوزارة - بعون الله - جدارة أكبر في أداء الأمانة الجديدة التي أضيفت إلى مسؤولياتها، مستعينة بالله أولاً ثم بالخبرات الثمينة والجهود التي لا غنى عنها التي انضمت إليها من تعليم البنات. ثامناً: إننا نذكر بكل فخر وإعزاز، وثناء وعرفان الانجازات التي حققتها الرئاسة العامة لتعليم البنات، والتي ما كان لها أن تتم لولا فضل الله ثم جهود المخلصين الأقوياء الأمناء من الرجال والنساء الذين بذلوا كل ما في وسعهم فجزاهم الله خير جزاء وأوفاه، وهذه الانجازات سوف يبنى عليها، ويستفاد منها. تاسعاً: لقد أكد ولي الأمر - حفظه الله - ووجه إلى ضرورة تمكين المرأة السعودية من الإسهام في تطوير تعليم البنات بحكم ما وصلت إليه من تأهيل، وما أثبتته من جدارة، وما نالته من شهادات عليا، ولابد أن يكون دورها رئيسياً ضمن ثوابت الدين الحنيف، وتوجيهاته، وأخلاقه، وآدابه. ومع كل ما بذلته مخلصاً في شرح توجهات القيادة الحكيمة الذي تنفذه الوزارة في هذا الشأن إلا أن الاعتراضات الحادة والجافة لم تصغ إلى أي دليل ولم تبحث في أي هدف سيتحقق به الخير في ذلك. إنها اعتراضات - لا مسوغ لها - تزعم أنها بسبب الغيرة على الدين، مع أننا كلنا حماته، وسائرون على نهجه، والمعارضون يظنون بغيرهم دائماً ظن السوء. نعم لقيت عناءً كبيراً من بعض الناس نتيجة سوء فهم أحياناً، وسوء ظن أحياناً أخرى، بعد دمج تعليم البنات مع الوزارة. ومع كل الجهود التي بذلتها لطمأنة الناس أنه لن يطرأ على تعليم الفتاة ما يخالف الشريعة الإسلامية، فقد كثرت الاحتجاجات من خلال الخطابات التي أرسلت للديوان الملكي، وعبر وفود قابلت رموز القيادة، وما طفحت به شبكة الانترنت من سب مقذع، وشتم وافتراء يفتقر إلى الحد الأدنى من خلق الإسلام وآدابه، وحتى بعض خطباء الجمعة وصف الدمج بأوصاف غير لائقة، وفيما يلي مقتطفات من إحدى تلك الخطب، حيث قال خطيب أحد جوامع مدينة الرياض، بالحرف الواحد ما نصه: «في مساء العاشر من شهر الله المحرم يوم عاشوراء، وبينما الناس على موائد الإفطار صكت أسماعهم أنباء ذلك الهول الأعظم، والمصاب الأطم، فكدّرت على الناس فرحتهم بصومهم وفطرهم، وبقي الكثير من الرجال والنساء في دهماء عمياء، بين مصدق ومكذب ومرتاب. هل ما يقال حقيقة أم أنني في بحر أمامي أخوض وأمخر؟ وبات الناس يدكون ليلتهم، أحقاً قضي على الرئاسة العامة لتعليم البنات؟! وتبادلوا رسائل الحزن والعزاء: أحسن الله عزاءكم، وجبر مصابكم في الرئاسة، توفيت هذه الليلة الرئاسة العامة لتعليم البنات عن عمر يناهز الثانية والأربعين سنة، إنا لله وإنا إليه راجعون. بكى الكثير، وحزن الصغير والكبير، وفزع الجمع الغفير، وأقسم أناس أنهم ما باتوا تلك الليلة، ولا لذ لهم غمض، وحلف آخرون أنهم باتوا طاوين لم يذوقوا على الإفطار غير تمرات حتى نهارهم التالي»، قال ذلك الخطيب كلاماً كثيراً، وأدعى - دون أن يفهم الحقيقة - أن الرئاسة ما ماتت عن كبر ولا هرم، ولا عجز لكنها قتلت في ريعان شبابها وأوج فتوتها بمؤامرة، وسعي بغيضين صامتين دائبين من بني علمان، لا أكثر الله لهم جمعاً، ولا حيا الله لهم طالعاً.. بنو علمان كم جروا على البلاد والعباد من الويلات، والنكبات، كما جلبوا من المخازي، كما دنسوا المحارم، وارتكبوا الجرائم، كم كذبوا وافتروا، وهولوا على الولاة أن هم الأفاكون الخراصون، الكذبة المفترون، قاتلهم الله أنى يؤفكون. واسترسل قائلاً بعد اتهامه لمن سماهم بالعلمانيين بالدفع بهذا القرار «نعم سقطت الرئاسة مضرجة بدماء العفة والشرف، وسقطت ضحية كثرة العدو، وقلة المدافع.. سقطت وهي تشكو إلى الله ثم إلىالأمة والتاريخ، جلد المنافق وعجز الثقة، وكثافة القصف، وقلة الناصر، وأحيلت أعمالها وصلاحياتها كافة لأناس لا تبرأ بهم ذمة، ولا يؤتمنون على عرض، فلك الله أيتها الرئاسة.. نعم من حقنا أن نقول الحقيقة، إذا كان أتفه علماني يقول ما يحلو له، عبر الصحافة الطوافة في أرجاء الدنيا كذباً وباطلاً، ويصور العلمانيون الذين هللوا بسقوط الرئاسة، ودفنوا جسدها الطاهر دون غسل ولا صلاة، يصورون للدنيا أن هذا الإلغاء رغبة المجتمع كله، ومطلبه الأوحد، وأن الجميع لا تسعهم الفرحة جراء ذلك، وكلما أراد أحد أن يقول شيئاً ليفرغ حرقة فؤاده، ويرد فريتهم، قابلوه مرة أخرى بالحصار والسخرية والركل بالأقدام، فمتى يعرف الناس الحقيقة؟!!»، والخطبة انفعالية طويلة.. أكتفي منها بهذا القدر. لقد كان أمراً مدهشاً أن يأتي هذا الاعتراض الشديد على تنظيم سليم ليس فيه ما يخالف قواعد الدين وأصوله، وأن يأتي هذا الادعاء وأمثاله من إمام مسجد في خطبة الجمعة، وتأتي التصريحات في وسائل مختلفة من أناس يظن بهم المعرفة وتحري الصواب فيما يقولون، والخطبة المذكورة هنا ألقاها معلم كنت أتمنى لو أنه سأل نفسه عن البرهان الذي جعله يقول: «وأحيلت أعمالها وصلاحياتها كافة - يقصد الرئاسة العامة لتعليم البنات - لأناس لا تبرأ بهم ذمة، ولا يؤتمنون على عرض» ولا سيما أنه يعمل في الوزارة، ولو أن هؤلاء الناس الذين أسند إليهم الأمر كما وصفهم فكيف اؤتمنوا على تعليم الأولاد؟ فهل الأمانة مطلوبة لتعليم البنات وغير مطلوبة لتعليم البنين؟ والمهم في الأمر أن المسؤولين عن تعليم البنات لم يزح أحد منهم عن مركزه ولم تتغير المسؤوليات. كان بإمكاني أن أرفع دعاوى قذف ضد هؤلاء وأمثالهم، ولكني احتسبت الأجر عند الله، فما عنده هو خير وأبقى، وليس عندي من الوقت ما يجعلني أمضي شيئاً منه في التقاضي، وتأسيت بالإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله - الذي سامح كل من آذاه في المحنة. وما تلك الخطبة إلا مثال واحد لخطب جمعة أخرى ألقيت أمام المصلين في ذلك الحين حول هذا القرار. ولعل أصحاب الفضيلة شيوخنا الكرام ينيرون لنا طريق الهداية الواضح فيفتون فيما إذا كانت هذه الخطبة وأمثالها تمثل النهج الصحيح لخطب الجمعة، وتتوفر فيها العناصر المستهدفة منها؟؟ هذا أمر. والأمر الآخر: هل حقيقة أن من يخطب بمثل هذه الخطبة تتوافر فيه شروط إمامة المصلين؟!! ولعلمي المحدود أن التنابذ وإلقاء الاتهامات محرم على عامة المسلمين - فكيف بهذا الخطيب وأمثاله يستبيحون ذلك لأنفسهم؟! بل إنهم يوغرون صدور المصلين، ويحملونهم على تصديق ما ليس صدقاً وحقاً، والتحريض ضد ما ليس واقعاً ثبوتاً.. ومثل هذا سبب من أسباب الفتن والنزوع إلى الشر. الإمامة هداية ومثالية، والخطبة وعظ وبيان للخير المراد للناس جميعاً، وليست نهشاً وتعريضاً - دون ما حق - بالآخرين. ليت الناس يتخلقون بأخلاق الإسلام ويدركون ضمن ما يدركون أن الكلمة أمانة وأنها مسؤولية ولا بد أن يتقي المسلم ربه في كل ما يقوله، متذكراً قول الله تعالى: (ولا تقف ما ليس لك به علم، إن السمع والبصر والفؤاد، كل أولئك كان عنه مسؤولاً). هذا.. وإني لأرجو أن يكون ما شرحته في هذا المقال والمقالات قبله دروساً نستفيد منها عبراً مما قد يحدث من تبدل المواقف عند الناس طبقاً لأغراض ومقاصد الله أعلم بها. وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب، والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.