عودتكم أيها القراء بمقال حولي، أحبر به بياض صحيفة «الرياض»، رصدت فيه أهم الظواهر التي طرأت على ساحتنا الوطنية وفضاءاتنا العربية والعالمية؛ لكني هذه المرة أبدأ من حيث انتهى العام المنصرم(1430ه / 2009م). ** قبل انصرام العام اكتحلت عيون الوطن برؤية سلطان يعود معافى إلى أرض أجداده وميلاده، وبرفقته سلمان سيد الرياض بعد طول غياب. ولن أتطرق إلى تفصيلات إعلامية صاحبت المناسبة؛ ولكني أورد عبارة كثيرا ما رددتها "ورّث الملك عبد العزيز تربية قبل أن يورّث ملكا". نعم رأينا أفراد الأسرة المالكة في صفوف تترى حسب السن، وبنظام يفوق "الاتيكيت الانجليزي"، ورأينا كيف يسعى الصغير نحو الكبير ولو كان عاجزا، رأينا صوراً رائعة من الود المتبادل، وبودي لو أن أحد الباحثين في التاريخ الوطني يجري دراسة عن" الاتيكيت السعودي" ليبرز صورة حضارية عن علاقات أعضاء هذا البيت بعضهم ببعض وعلاقاتهم بغيرهم . يحكي لي الزميل الدكتور عبد العزيز بن سطام بن عبد العزيز أنه كان ذات يوم يسير مع أبيه في لقاء فأشار إليه أن يتأخر ليتقدم عليه أحد الأمراء فقال: يا أبتي أنا أكبر منه بيوم! وهذا يفسر لنا ثبات الحكم ببقاء الثوابت وأبرزها "توقير الكبير". ورأينا كيف يكن زعماء الخليج لهذه الشخصية الوطنية من إجلال وتقدير. وتابعنا الصور الأخرى التي نقلها إعلامنا للأمير سلطان وهو يقبل الجرحى من جنودنا البواسل والأطفال الذين تشرفوا بالسلام عليه. صور لا نراها في غير وطننا الأشم. مجمل القول: إن جيل التأسيس له التجلة لدى مواطني هذا البلد وقاطنيه لما يمثلون من مثل، ويتوفرون عليه من مبادئ، ويملكونه من خبرة فقد مروا بمراحل توحيد البلاد وظروفها حلوها ومرها وهم شهود العصر بكل تفصيلاته. ** في المشاعر المقدسة يحتاج الإخوة الحجاج والزوار إلى "مرشدين سعوديين" تابعين للهيئة العامة للسياحة مهمتهم اصطحاب الأفواج إلى معالم مكةالمكرمة و المدينةالمنورة وسرد تاريخ المكان بأسلوب حضاري يجمع بين الخبرة والعلم والانفتاح على مذاهب المسلمين بدل أن يقود الأفواج رجل منهم لا يفقه شيئا عن بلادنا وربما يسيء القياد فيحول الزيارة إلى فتنة كما حصل في البقيع. ويمكن للمرشد السياحي عرض صور مع التعليق عليها بلغات مختلفة؛ ليدرك الحاج والزائر أن هذه البلاد تتلقاه بالحب والود والتسامح بعكس ما يدور في رأس البعض من وسوسة أوحى بها إليه من يسيطر عليه. ** تابعت الحراك الفكري من حوار وطني ولقاءات ثقافية ونقاشات حادة ومنفرجة ومداخلات الاستدراج على الهواء. ولا بأس أن تتحرك التيارات في محيط الوطن لأن الماء بلا حراك يأسن، ولكن ينبغي وضع ضوابط قانونية تحدد مجالات النقاش بحيث لا يؤدي إلى الفرقة الوطنية أو خيانة الوطن أو الخروج عن دائرة الدين القويم أو القدح الشخصي أو القذف والتشهير حتى يكون نقاشنا حضاريا وحتى تستهل قناتنا الثقافية عامها الأول بنماذج راقية تمثل أفكارا وآراء مختلفة وشعارها (لا للخلاف نعم للتنوع). ولكني أعتب على بعض الصحف التي حولت افتتاحياتها إلى مناصرة طرف ضد طرف وحري بافتتاحية كل صحيفة أن تهتم بأمور تهم الوطن. وساءني أن يتطور الخلاف الفكري إلى تحزبات كل حزب بما لديهم فرحون. وعلى غيرهم يغيرون، يصنفون الناس ولا يستثنون، ولشيخ الأدباء عبدالله بن إدريس موقف من أولئك قديم ذكره في زورقه: وبنو العروبة – يا لسوءة فعلهم ظلوا كما هم في ركاب الهون يتنابزون شتائما موبوءة من خائن أو فاسد في الدين هذاك روسي وذا متأمرك هذا يساري وذاك يميني في الحوار نصل إلى التفاهم: صليت ذات مغرب بجماعة (ثانية) فجهرت بالبسملة في الفاتحة وبعد التسليمة الأخيرة بادرني أحدهم قائلا: لِمَ جهرت بالبسملة قلت لأنها آية فأجابني ولكننا لم نعهد ذلك قلت له الفيصل القرآن المجيد فأسرع إلى المصحف ووجد البسملة الآية رقم(1) وقال وقد علت محياه دهشة: لقد ختمت القرآن عشرات المرات ولم الحظ ذلك؟ لأنني اعتمدت على التلقائية. هذا الموقف يدعونا إلى التمعن بموروثاتنا لنضعها على محك الكتاب وصحيح السنة لننقيها من شوائب الأعراف والتقاليد. ** حدث زلزال العيص في جمادى الأولى 1430ه، وسارعت الأجهزة المعنية إلى إخلاء المنطقة وإعداد النزل وتم ذلك بأسلوب جعل الأهالي يشعرون بالرضا غير أن قلوبهم على حيواناتهم ومزارعهم. وكنا ننتظر من معلمي التعليم العام تخصيص حصة من حصص الجغرافيا للحديث عن هذه المنطقة وأسباب الزلازل حيث نربط المواطن بكل ما يحدث على أرض وطنه. ولا أذكر أحدا تفاعل علميا مع هذا الزلزال سوى الدكتور عبدالعزيز اللعبون الذي اصدر كتابا عن جيولوجية هذه المنطقة. ثم مرت بنا كارثة جدة وقلب الدولة على المشاعر المقدسة، فخر السقف من فوق جدة وتذكرت الأودية مجاريها، واجتاحت غاضبة تلك السدود المصطنعة، فحملت في بطنها جثث الناس وعلى ظهرها سياراتهم وممتلكاتهم بصورة لم نعهدها من قبل. ورغم ظروف الحج فقد سارعت فرق الإنقاذ لانتشال ما يمكن انتشاله وشاهدنا قائد الهيلوكبتر الوطني الذي هبط فوق شاحنة لإنقاذ خمسة ثم ارتفع ثم عاد بصورة رائعة لينتشل واحدا. وتحدث الناس عن أم أحمد الجدعانية وفيرمان الباكستاني وكيف أنقذا عددا من الناس وغرقا رحمهما الله رحمة واسعة. هذه الصور لابد أن تخلد في كل أمانة حتى يتذكر كل أمين واجبه ويأخذ الحيطة والحذر في كل قراراته، وحبذا لو نسج القصاصون روايات حول شجون وطنية بدل أن يتقمص القاص إهاب الروائيين الغربيين فتأتي روايته غربية الوجه والدم واللسان. إن كل بلد معرض للكوارث، ولكن أخذ الحيطة وتصور الكارثة قبل حدوثها هو المطلوب، ولكي نوحد الجهة المخولة للتعامل من الكوارث حبذا لو يكون ثمة "وزير دولة" للأزمات والكوارث ويمكن أن تطور "هيئة الهلال الأحمر" لتضطلع بهذه المسؤولية سيما وأننا نلمس خطوات تقدمية فيها ومنها تدريب عناصر في كل منشأة حكومية على طرق الإسعافات الأولية والإخلاء. ولابد من احتضان المتطوعين الوطنيين الذين لهم جهود في إنقاذ الناس من كوارث السيول مثل إبراهيم الهقاص وغيره ليكونوا على أهبة الاستعداد لأي أمر طارئ ، ويحظوا بالتكريم المناسب ويكون لهم " جمعية المنقذين". مثلا. ** أعجبني -ولا أقول أثلج صدري لأننا في المربعانية - موقف تناقلته وسائل الإعلام المرئية والمقروءة والمبثوثة للسفير السعودي لدى الهند فيصل الطراد الذي غادر جلسة مؤتمر في الهند حول الإرهاب العالمي احتجاجا على تصريحات لوزير العدل الهندي السابق رام جيتمالاني حاول فيها الربط بين السعودية والإرهاب كان ذلك في ذي الحجة 1430ه. غادر لأنه سفير دولة لها كرامتها وهو يمثلها وبقاؤه في القاعة إقرار بما يهذي به هذا الوزير. الإحساس يوهب ولا يشترى. إن الدبلوماسية شيء والصمت على "الإهانة" شيء آخر. وهاهي تركيا بكل جبالها ووهادها وسكانها وقارتيها تثور ضد التصرف الأهوج الذي مارسته الخارجية الإسرائيلية مع السفير التركي لدى تل أبيب فقد أهانوه عند الباب منتظرا، وأهانوه بأن أجلسوه في مقعد قزمه أمام غطرسة يهود الشتات، فبدا كالمتهم. وهذا و – أيم الله – دليل على تربية منحطة. ** سرنا التطور المتعقل الذي طرأ على هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن ذلك التوجه إلى اعتماد العنصر النسائي للتعامل مع بني جنسهن، والمرأة المحتسبة معروفة في التاريخ الإسلامي. وفي العصر الحديث وتحديدا في نهاية القرن التاسع عشر الميلادي ذكر تشارلز داوتي الذي زار عنيزة أنه كان يتحدث مع بدوي والناس يؤمون المساجد فمرت بهما امرأة وسحبت ردن البدوي منادية "الصلاة الصلاة". وكان للنسوة مصليات داخل الأحياء القديمة وبين المزارع، وكن يسافرن على الجمال، ويتولين إحياء المزارع، وينظمن الجمعيات الخيرية، ولهن تجارتهن وأسواقهن ومهنهن. كان ذلك إلى زمن الطفرة. فاقتصر عملهن على التعليم وبعد ممانعة زاولن التمريض والطب. لقد أثبتت المرأة السعودية كفاءتها في أمن السجون ودور الرعاية وحراسة المدارس، والجمارك، والجوازات، والمستشفيات وهي قادرة على أن تعيد وظيفة "المحتسبة" لتزاول نشاطها في الوسط النسائي بأسلوب حضاري وفي مباشرة الحوادث التي يكون فيها عنصر نسائي. أمر آخر يتعلق بمراكز التسوق الحديثة ذلك أنه ينبغي تخصيص غرفة مراقبة تتولاها نسوة لملاحظة السلوك العام في السوق من مضايقات ومحاولة السرقة والتنسيق في ذلك مع رجال الهيئة. ** هيأت الدولة كل الوسائل من أجل نشر "الحكومة الإليكترونية" ولكن المؤسف أن بعض الجهات الحكومية ما زالت تتبع أسلوب "المعاريض"وورقة التعريف"، وما زال حضور الموظفين وانصرافهم حسب مزاج من بيده "الدفتر". ولكي يفعل دور جهات الرقابة ينبغي تعميم أجهزة توقيت الحضور والانصراف "بالبصمة" وتكون مرتبطة مباشرة بالجهة المعنية بمراقبة الأداء الوظيفي في الدولة. ويمكن بسهولة معرفة درجة الانضباط لكل موظف شهريا. ما أريد أن أقوله هو أن التقنية تساعد على الانضباط غير أن ثمة من لا يريدها لأنه غير منضبط؟ لقد ارتحنا من "التمييز حسب الرصيد" في تعامل البنوك مع المراجعين بعد أن أصبح الكل يجرون معاملاتهم اليكترونيا. الآلة لا تعرف الواسطة لكنها حسب مبرمجها، نحن بحاجة إلى إعادة النظر في جميع أنظمتنا المدنية لتواكب عصر التقنية, بحاجة إلى تصميم نماذج من نقاط لكل جهاز حكومي (الأداء، النتاج، الشفافية، العدالة، الجودة والتطوير، الدقة، سرعة الانجاز) لكي يؤخذ ذلك في الحسبان عند تحديد الميزانية المناسبة له لا أن نعتمد على مقدار ما تبقى من ميزانيته السابقة؟ ** هل مجتمعنا هش إلى هذه الدرجة؟ يقوم أفاك أثيم بإشاعة " الزئبق الأحمر في مكينات الخياطة "، فيتراكض القوم من كل حدب وصوب يحملون على أكتافهم "سنجر" و رفعوا أسعارها إلى حد الجنون؟ ليفوز من نشر الإشاعة ويلوذ في زاويته المعتمة دون حسيب. إن على المختصين أن يبحثوا عن سبب " انتشار الإشاعة" هل هي الطمع أم الجهل أم التقليد أم الخوف. إن فقدان المعلومة الصحيحة في وقتها يجعل البعض يلهث وراء الإشاعة. لقد أدى تصديق الإشاعة إلى فقدان البعض ثرواتهم بل وعقولهم وصحتهم. ليس الأمر وقفا على شرائح محدودة الثقافة بل وصل الأمر إلى أكاديميين. إننا بحاجة إلى "مركز علمي لتحليل الإشاعة" لأنها وباء يجب محاصرتها وتحصين المجتمع منها، والتوعية بمضارها ويمكن لأي مواطن أو مقيم أن يتصل بالمركز ليتأكد من صدق الإشاعة من عدمها في حينها ليقطع الشك باليقين. إن من يضع العصا في عجلة الإصلاح كمن يجر العربة إلى الخلف، ولا أعتقد أن مواطنا مخلصا لهذا الوطن يهم بمثل هذا؛ بل يسعى لأن يدفع بعجلة الإصلاح نحو الأمام والأمان، ولكل وطني غيور تحاياي. * أستاذ العلاقات الحضارية أستاذ الدراسات العليا - كلية العلوم الاجتماعية، قسم التاريخ والحضارة بجامعة الإمام