تعد رواية "الفالكريز" للكاتب البرازيلي الشهير بول كولهو من أهم الروايات التي تركت أثرًا على القراء ونالت مراجعات نقدية متعددة. تتحدث الرواية عن قصة رجل اسمه "بول" مولع بالتعرّف على القوى الغيبية مثل الملائكة والجن والكائنات الخارقة، وهو متزوج من سيدة متدينة اسمها "كريستينا" لم تكن يومًا مهتمة برؤية الأرواح ولكنها تحب الله وتصلي له. يتحدث الكاتب كولهو عن مسارين في الرؤية الدينية: أحدهما غايته طقوسية تجعل اهتمام الشخص وتخيله وطاقته متصلة بشكل مباشر بالعبادات والواجبات الدينية بغض النظر عن البحث عما وراء ذلك من غايات. والآخر لايهتم كثيرًا بالممارسات ولكنه يجد نفسه مأخوذًا بالكينونة الغيبية بذاتها فيتلمّس أي مؤشّرات خارقة لكي يتعرّف على هذا العالم المغري بغموضه وقوته. بدأت الرواية تتحدث عن شغف السيد بول في التعرف على الملاك الحارس وبحثه عن سبل للحديث معه، وبعد ذلك قرر أن يعيش لمدة أربعين يومًا مع زوجته في إحدى صحاري لوس أنجلوس وهي مدينة تحوم حولها الشائعات بأنها ترتبط بظهور الأرواح. وتتسارع الأحداث حيث تنتهي الرواية بأن تجد كريستينا نفسها مهتمة للغاية بالحضور الملائكي، فتظهر لديها قوة وشخصية وأفكار لم تكن لديها من قبل، مما جعل رحلة البحث عن الملائكة -في الحقيقة- رحلة صدق مع الذات تسامحت فيها مع ذاتها ومع زوجها الذي اكتشفت أنه كان مهووسًا بالحياة الغيبية وغفل عن مشاركتها هذه الحياة التي أمامه. الرواية مترجمة إلى الإنجليزية بشكل رصين يجعل القارئ نفسه مندمجًا مع العمل بعمق. وبالنسبة للقارئ المسلم الذي يؤمن بالله والملائكة والجن ورحلة شقاء البشر، فإنه يجد في هذه الرواية تشابهًا واختلافًا عن واقع المتدينين؛ فالكاتب يحاول تقديم فكرة أن المتديّن أو المهتم بدراسة أمور الدين لايعني بالضروة أنه قريب من الله أو أنه يعرفه حق المعرفة أو حتى أنه جدير بالمكانة الاجتماعية التي يأخذها باعبتاره رجل دين أو دارسًا له. فتظهر شخصية "بول" في الرواية على أنه مولع بالأمور الدينية والغيبية ولكنه في حقيقة الأمر فشل في تحقيق هدفه بالتواصل مع هذا العالم، لدرجة أنه فقد عقله في آخر الرواية وأصبح يتحدّث مع نفسه متوهمًا ذلك على أنه وحي. في حين أن زوجته كريستينا التي كانت تمارس الطقوس الدينية تمتلك صدقًا واضحًا مع ذاتها عرفت من خلاله إيجابيات قدراتها وسلبياتها وعلاقة ذلك بشخصية زوجها؛ ممّا جعلها أكثر اتزانًا من نفسها ومع غيرها، فأصبحت قادرة على أن ترى وتسمع بل وتتحدث مع ملاكها الذي كان يحرسها من أذى الآخرين لها، خصوصًا زوجها الذي لم يكن يهتم كثيرًا بالعناية بها لانشغاله بنفسه وبرحلته التي باءت بالفشل المخجل. والنقطة الأخرى التي ركز عليها الكاتب هي تسامح الله وتقبله للإنسان بما فيه مادامت نيّته صافية ولم يخطئ على إنسان آخر. ففي الرواية شخصية لسيدة متدينة اسمها "فالهالا" لم تكن أكثر النساء نزاهة في المدينة مما تسبّب في فشلها في زواجها وفقدانها لأطفالها، ولكنها مع هذا لم تفقد الثقة بالله رغم كل خيبات الأمل التي مرّت بها. ومع أن الأخطاء التي اقترفتها هذه السيدة في حق نفسها وفي حق غيرها جعلها منبوذة وفق العرف الاجتماعي للثقافة. ولكنها، مع هذا، اختارت أن تكون داعية لتقترب أكثر من الكينونة الوحيدة التي لازلت تثق بها وتضع عليها أملها الوحيد وهي الله. وبغض النظر عن ديانة مؤلف الرواية، فالأفكار المطروحة هي أفكار دينية معروفة في جميع الأديان السماوية. فتسلّط رجل الدين على غيره مثلا بسبب معرفته بدراسته أمر شائع، وقد اعتدنا سماع مقولات ترى أن من لايدرس الدين لايفهمه؛ وكأن الدين مقتصر على فئة تجد في التخصص به تفردًا يجعلها أفضل من غيرها في جميع النواحي. والواقع أن مثل هذه الأفكار بحد ذاتها تمثل مشكلة في مجتمعنا؛ فالشخص المتدين مهما كانت طبيعة علمه في الدين يمتلك تعريفًا اجتماعيًا بأنه صالح لامحالة وأن له الحق في الإفتاء ونشر أي أفكار دينية يجدها مناسبة لإصلاح الناس. هذه الأفكار كانت أكثر حدّة قبل أن يضرب الإرهاب بأطنابه في بلادنا، وربما لايزال البعض يضفي على شخص المتدين –لا شخصيته- اعترافًا فوريًا بصلاحه دون التدقيق والتمحّص في طبيعة تديّنه وصدق نيته ومستوى علمه وذكائه وسلامته من العلل النفسية والعقلية. والأمر الآخر أننا غالبًا مانذكّر أنفسنا بالعذاب في يوم القيامة ونار جهنم وغضب الله وهي جميعها أمور مخيفة بطبيعة الحال، وننسى التذكير برحمة الله وتسامحه ولطفه ومدى الحبّ الجزل الذي نتعلمه من خلال كينونته المتّصفة بالعدل والسلام. فهناك من يأخذون الله ذريعة للتدخل في حياة الآخرين عنوة فيخبرونك عن رأيهم الشخصي في أفكارك ولباسك وطريقة حياتك، بل وحتى طريقة تربيتك لأولادك؛ وكأن لهم رخصة في ذلك كونهم يقرأون في كتب الدين بدلا من الأدب والتاريخ والفيزياء مثلا! والمفيد في هذه الرواية أنها تكشف لنا أن المشكلات المتعلقة بالتدين ومن يمارس الدين ويعلّمه هي أمور شائعة بين الشعوب المتدينة، وليست حكرًا على مجتمع معين. ذلك أن السلطة الدينية تعدّ أقدم وأقوى سلطة إنسانية في الكون تحاول جعل الناس يسيرون وفق قانون ديني مقنن. وقد استطاع الكاتب البرازيلي بول كولهو، الذي اعترف أنه كتب الكثير عن نفسه وعائلته في هذه الرواية، أن يكشف هذه المشكلات ويجعها واضحة للقارئ الواعي.