حين كانت الجزيرة العربية أول العالم وآخره، وحين كانت مكةالمكرمة قلبه وقبلته كان جنوبمكة يمنا وشمالها شاما، ولم يعرف أهلها مصطلحي شمال وجنوب إلا حديثا. كان جنوب المملكة يُعْرَف بحجاز اليمن أو يمن الحجاز. كنا حجازا بالنسبة لليمن ويمنا بالنسبة للحجاز، وكان هذا الحجاز أو هذا اليمن قصيدة طويلة تغطّي جبال السروات وسهول تهامة وخُبُوتها. كانوا يصعدون شعرا ويهبطون غناء. لم يكن لديهم إلا الشعر، يقتسمونه ويتوارثونه مثلما يتوارثون الأرض والمطر والحب. ما جاءتهم رياح من اليمن إلا وهي محملة بالمطر ، يقول شاعرهم " إذا هبّتْ يمنية تباشرنا بَلَمْطارا" آه يا سهيل اليمن ، كم كنتَ مطرا وفرحاً، كم كنت طربا وغناء وغنى، ما رأينا يمنيا إلا ورأينا فيه مطرا وأهلا. وما ذهبوا إلى مكة للحج إلا وفي كل خطوة يمن وحجاز، لم يكن من فاصل بين جبل وسهل إلا الإخاء، والحدود التي يعترفون بها هي حدود الله. ما سمعوا بالسياسة والجمهورية والحدود إلا بعد البلاغ الأول ، حين انقلب اليمن على نفسه، وانقلب كل شيء على نفسه، واختفى سهيل اليمن من السماء، واختفى الشعر مذ أعلنها عبدالله البردوني " ماذا أحدِّثُ عن صنعاء يا أبتي مريضة عاشقاها السل والجرب" في أحد الصباحات الطفولية المبللة بالجبال، بالغيوم والأمطار والشمس، باغتتنا طائرات الثورة ، وكنا أول النازحين. منذ تلك الصبيحة، فقدت جبال السروات أشعارها وأمطارها وسهيلها، ودخل اليمن السعيد في سعادة غريبة، سعادة الجوع والموت، سعادة التشرد والطرقات البعيدة، وتحولت تلك الحدود التي بنيناها من الشعر والمطر إلى حدود من البكاء والنزوح ، من الموت والخوف، سيدي يا سهيل اليمن ، امنحني مطرا كي أراك، كي أصعد إليك مثل قصيدة . أو فعلِّمنا أبجدية الرحيل..