تكشف أعداد المجلات والصحف المتخصصة في العالم المتقدم علميا وتقنيا عن حضورها الكبير وتأثيرها في المشهد الإعلامي، كما تكشف تلك العناية الكبيرة في تكوين صحفيين متخصصين في شتى فروع العلوم. ففي فرنسا تحصل الصحف المتخصصة على 31.2% من الإعلانات، مقابل 22.8% تحصل عليها الصحف العامة غير المتخصصة. وفي الولاياتالمتحدةالأمريكية يجري إصدار نحو 12 ألف مجلة وصحيفة يومية وأسبوعية وشهرية منها حوالي 9 آلاف مطبوعة متخصصة تتناول كافة المعارف. ويصدر سنويا في الولاياتالمتحدةالأمريكية ما يقارب 160 مطبوعة متخصصة، أي أن نسبة المطبوعات المتخصصة في أمريكا بشكل عام تقدر بنحو 75% من مجمل إصداراتها. وتكاد هذه النسبة - رغم اختلاف الأعداد - تكون متساوية في كل من انجلترا وألمانيا ومعظم دول أوروبا الغربية واليابان. أما بالنسبة للدول الاسكندينافية، فهناك دوريات علمية جماهيرية تدعمها الدولة بعنوان "البحث العلمي والتقدم" تجري طباعتها وتوزيعها منذ 30 عاما، وفي الدانمارك تصدر مجلة علمية جماهيرية توزع منها شهريا 130 ألف نسخة بالإضافة إلى أعداد مماثلة توزع في كل من السويد وفنلندة، حيث يتم إصدار تلك المجلة بلغات تلك الدول. أما في روسيا فتشكل الصحافة العلمية 14% من مجموع الصحافة المتخصصة هناك. وتعد مجلة "العلم والحياة" التي توزع 3.5 ملايين نسخة من أهم المجلات العلمية التي تصدر بها. وفي الصين الشعبية وحدها يتوفر اليوم أكثر من 160 دورية صحفية و 70 صحيفة يومية متخصصة في العلوم والتقنية. أما موقع الصحافة العلمية في الأهمية على الصعيد العالمي، فيمكن القول إنها تأتي في المرتبة الثالثة بنسبة 15% من مجموع الكتابات الصحفية بعد العلوم الاجتماعية التي تحتل 28%، ثم يأتي بعدها الآداب والعلوم الإنسانية والاهتمامات العامة. أما على صعيد المؤتمرات العلمية، فتأتي مؤتمرات العلوم الاجتماعية في المرتبة الأولى 42%، يليها مؤتمرات العلوم الإنسانية 21%، وتحتل مؤتمرات العلوم والتقنية المرتبة الثالثة بنسبة 19%. وعلى الرغم من هذا النشاط الكبير في حقل الصحافة العلمية في العالم المتقدم، فإن هناك أيضا مؤشرات على حالة من القلق في تلك البلدان من خطورة تراجع مستويات الإعلام العلمي، ومن بحوث استطلاعات الرأي العام في مجال الإعلام العلمي يمكن الإشارة إلى استطلاع للرأي مولته وزارة البحث بفرنسا، حول الفرنسيين والبحث العلمي، وكشف الاستطلاع أن 63% ممن استطلعت آراؤهم يرون أنه لم يتم إخبارهم كما يجب بالاكتشافات العلمية، وترتفع هذه النسبة لتصل إلى 74% لدى الشباب من ( 18 إلى 24 سنة )، وهذا يعني أن الإحساس بالنقص على مستوى الإعلام العلمي أمر قائم حتى لدى الدول المتقدمة على الرغم مما لديها من مشروعات ومؤسسات ونشاط كبير في هذه المجال. تقدم البيانات عن حال الصحافة العلمية العربية مؤشرات على ضعف عدد الإصدارات الصحفية المتخصصة بالثقافة العلمية الجماهيرية، حيث لا يوجد سوى 15 مجلة علمية موجهة للجمهور تستهدف نشر الثقافة العلمية وذلك في 22 بلدا عربيا، بالإضافة إلى بضع دوريات في تخصصات دقيقة ومحددة تتسم بالخصوصية الشديدة ولا تناسب سوى المهتمين. كما أنه من بين أكثر من 120 صحيفة عربية لا يزيد عدد الصحف الجادة منها في إصدار صفحات علمية متخصصة أو بابا يوميا أو أسبوعيا في العلوم أو التقنية عن 20 صحيفة عربية. وهذا كله من ناحية الكم أما من ناحية الكيفية التي تتناول بها تلك الدوريات أو الصحف العربية القضايا العلمية فهي مسألة أخرى حيث تؤكد الدراسات القليلة والنادرة أنها لم تصل بعد إلى مرحلة أن توصف بقدرتها على صناعة إعلام علمي مواكب. وإذ يأتي السياق الذي تتحرك فيه الصحافة العلمية في الدول المتقدمة في دائرة العلم من أجل العلم - فوظيفة العلم استقرت في الوجدان العام منذ التطورات الكبرى التي شهدتها البشرية إبان الثورات العلمية الكبرى، وما تلاها من كشوف وتطورات علمية وتقنية، بل تتجاوز هذا إلى مستوى التأثير في العلاقة بين نتائج البحث العلمي والحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في تلك المجتمعات - فإن السياق الذي تتحرك فيه الصحافة العلمية في البلدان العربية سياق ملتبس ولم يأخذ بعد دوره في تأكيد رسوخ منهج واضح في التعاطي مع قضايا العلم. أما على النطاق المحلي فالمشكلة اليوم ليست فقط في إيلاء الصحافة المتخصصة الأهمية الكافية، فالعديد من الصحف السعودية تصدر صفحات علمية لكنها أشبة بصفحات الأرشيف العلمي منها إلى أعمال صحفية تتناول قضايا علمية تشكل هاجسا وطنيا وتؤدي دورا مهما في الكشف والمتابعة. التراخي في تأهيل وتدريب واستقطاب الكفاءات العلمية المتخصصة وإدماجها في عمل صحفي كبير وهي تحمل مهاراته وتعرف مقوماته وتستغرق في نشاطه، أحد الأسباب الرئيسية في عدم تطور الصحافة العلمية السعودية. وللتدليل على ضعف الصحافة السعودية في تناول القضايا العلمية يمكن استعادة الكثير من القضايا التي لم تحظى بالمستوى المطلوب أو المأمول من المعالجة. فمن القضايا التي أشغلت المجتمع السعودي مؤخرا وصارت مثارا للتساؤلات، وأحدثت بلبلة واسعة "لقاح انفلونزا الخنازير". تلك التحذيرات التي وصلت عن طريق الإعلام غير الرسمي من خطورة هذا اللقاح والتحذير من استخدامه، وجدت صدى كبيرا داخل المجتمع ولم تنبري لها وسائل الإعلام المحلية سوى بنقل مزيد من تصريحات المسئولين المضادة، ولم تتراجع تلك الدعاوى حتى عندما بدأ التطعيم الفعلي لهذا اللقاح ومن قبل قيادات وزارة الصحة وعلى رأسها الوزير. كان السؤال حينها أين هم الصحفيون المتخصصون الذين يستطيعون أن يطلعوا على مصادر المعلومات التي قدمت تحذيرات خطيرة حول آثار اللقاح، ويبحثون في مصداقيتها ويتعاطون معها كقضية صحفية بامتياز تتطلب الكثير من الجهد والإلمام والمتابعة، وكان السؤال أين الأعمال الصحفية الجادة التي حاولت الاستعانة بالخبراء والباحثين المحليين والعالميين للاستفادة من خبراتهم في هذا الموضوع، وكان السؤال أيضا أين دور الصحفي العلمي من مسألة حساسة وذات أبعاد خطيرة على صحة الإنسان ولها تداعيات كارثية على مستوى الوطن. ولذلك لا غرابة أن تقول وزارة التربية والتعليم أن 80% من أولياء أمور طلاب المدارس أبدوا عدم رغبتهم في إعطاء أبنائهم اللقاح. الإعلام الموازي خلق حالة عدم ثقة باللقاح ولا يفترض أن تكون مهمة الصحفي العلمي الترويج لرؤية وزارة الصحة تجاه هذه العقار أو سواه، إنما دوره الكبير يتم من خلال محاولة الكشف والاقتراب من الحقائق العلمية الموثقة من خلال سلسلة من الأعمال الصحفية الجادة التي تتطلب الماما كافيا وقراءات متعددة واطلاعا واسعا ومتابعة مستغرقة. ومنها أيضا ما نشرته صحيفة الرياض قبل فترة وجيزة عن تلوث كثير من الخضروات المحلية بالمبيدات الحشرية ذات الآثار المسرطنة. يظل السؤال وماذا بعد؟ أين هي الصحافة العلمية التي يمكن أن تجعل هذه القضية قضيتها، وان تصعد بها إلى مستويات من الكشف والقراءة والمتابعة وصولا إلى دعم اتخاذ إجراءات حازمة وفعلية تجاه قضية من اخطر القضايا التي تتناول صحة الإنسان. إذا كانت الوقاية خير من العلاج، فلماذا لا تكون الصحافة العلمية المتخصصة هي الحارس الأمين على قضايا الإنسان الأكثر خطورة!!. وقس على هذا قضايا كثيرة مرت من الغذاء إلى الدواء إلى قضايا البيئة والمياه إلى قضايا الكشوف العلمية والسياسات العلمية والبحث العلمي....دون أن تحظى بالمتابعة وصولا لتحقيق نتائج يمكن تلمس أثرها أو فاعليتها أو مواكبتها.