إن هذه البيئة الأفغانية التي تعتمد تقديس رجال الدين ، والتي تربت أجيالها على هذا العطب العقلي ، لم ولن تقف عند حد ، وستتجلى في كل التشكلات التقليدية في بلاد الأفغان ، وستحدث المآسي تلو المآسي وفق هذا النسق التقليدي ، ولكن بدون أن يُحس الأفغاني بأنه واقع في أتون مأساة مُروّعة ، طبعا لن يحس ؛ لأنه غير قادر على استبصارها ؛ نتيجة الهيمنة الكبرى لهذه الرؤى المتخلفة على مناخ الوعي العام . لهذا ، فحتى فهمي هويدي الذي تُوقِفُ إسلامية ( الشعار) الطالباني قدرته على المعاينة والفحص ، يُفجع بما رآه أمامه من وقائع طالبانية غير معقولة . لقد رأى شابا في الثانية والعشرين من عمره ، ليس لديه أي مؤهل علمي ، ولم يُكمل حتى تعليمه الديني ، لكنه مع كل هذا يُدير جهاز الخدمات الطبية في منطقة جلال آباد ، ويرأس(1200) من العاملين في القطاع الصحي ، منهم ( 450) طبيبا . لقد تولى هذا المنصب الرفيع بأمر أمير المؤمنين : الملا محمد عمر . أي أن ولاءه التقليدي لخطاب التقليد الطالباني هو الذي مكّنه من هذا المنصب الإداري / العلمي الرفيع . ولا يقتصر الأمر على تعيين مدير خدمات بدون أي مؤهلات ، بل إن وزير الصحة نفسه في حكومة طالبان ، ليس أكثر من رجل دين تقليدي . يقول هويدي ص 50:" كانت غاية الملا محمد عباس أخوند أن يُصبح شيخا للحديث ، لكنه وجد نفسه فجأة وزيرا للصحة ، حينما أصدر ( أمير المؤمنين ) الملا محمد عمر قرارا بذلك ". إن هذا ليس تخبطا أو عبثا من الملا عمر ، إنه ليس قرارا أهوائيا ، بل هو قرار واعٍ ناتج عن رؤية تقليدية شاملة ، تعتمد استراتيجية ترسيخ وتعميق التقليد في الواقع ، في مقابل إلغاء العقل ومكافحة التفكير ؛ عن طريق نفي ممثليهما من نطاق التأثير . إنها ليست أمرا يُدار في الخفاء ، بل هي استراتيجية معلنة ، يعرفها الكبير والصغير في أفغانستان طالبان . يقول هويدي : " مسؤول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في جلال آباد قال لي : إن أمير المؤمنين الذي اختاره لمهمته ، مقتنع بأن الفقهاء يستطيعون النهوض بأي مسؤولية يكلفون بها لأن معرفتهم في العلوم الشرعية توفر لهم مرجعية وخلفية تمكنهم من تبيان الخطأ والصواب في كل مجالات النشاط الإنساني كافة ". ومعروف للجميع أن قيادة هؤلاء وأمثالهم لم تنهض بشيء غير تصدير الأفيون وتنمية الإرهاب ، إنها قيادات لم تستطع أن تميّز حتى بدهيات الخطأ والصواب . ولا شك أن هذه القيادات التي اختارها الملا عمر ، هي التي أدت إلى دمار أفغانستان بالكامل ، وأوقفت النشاط الإنساني في جميع مناحي الحياة . أنا هنا ، حينما أعرض الخلفيات الفكرية لبؤس المشهد الأفغاني ، فأنا لا أقصد المشهد الأفغاني حصرا ، وإنما أعرضه ؛ لندرك من خلال تشابه الرؤى والمنطلقات بؤس المشهد الإيراني أيضا . صحيح أن المشهد الإيراني أخف بكثير مما كانت عليها الحال عند طالبان . لكن ، الطبيعة النوعية للمشهد واحدة . وما جرى في أفغانستان من عطب سياسي وتنموي بصورة حادة وحاسمة ، يجري منذ ثلاثين سنة في إيران ، لكن بصورة هادئة وبطيئة ، تخفف من وقع الكارثة وتُقلل من درجة الإحساس بها ، لكنها لا تنفيها . ما أن ترى وقائع المشهد الطالباني ؛ حتى تحضر إلى ذهنك صورة المشهد الإيراني . وهذا ما حدث لهويدي المتلبس حباً بكلا المشهدين . لقد لاحظ أهم عناصر المشكلة في البلدين : " كل المسؤولين فقهاء " ، كما يقول . ومن ثمَّ اتجه بخاطره إلى الصورة المشابهة : إيران ، فقال : " هو شيء أقرب في مفهومه من فكرة ( ولاية الفقيه ) التي تبنتها الثورة الإيرانية ، وإن ذهبت (طالبان ) في التطبيق إلى أبعد مما ذهبت إليه الثورة الإيرانية " . حقيقة إيران الخميني ، لم تضع كل الوزراء من الفقهاء ؛ كما فعلت طالبان ، لكنها وضعت في كل وزارة مندوبا للإمام ، أي رجل دين مرتبطا مباشرة بالولي الفقيه ، كمراقب إيديولوجي ، يمارس حراسة الانصياع للنسق الفقهي العام . أعتقد أن أهم ما يجب فحصه في كلا المشهدين المتطرفين ، جدلية العلاقة بين الفكرة والواقع . إننا ومن خلال ذلك أو به ، نستطيع أن نفحص علاقة الدين بالدولة ، تلك العلاقة التي لا يزال كثيرون يعتقدون أنها علاقة بسيطة ، تسير في الاتجاه الواحد ، أي من الدين كمصدر للرؤى والأحكام الجاهزة ، إلى الدولة كمجرد أداة تنفيذ ، أداة صماء ؛ لا تُكيّف الدين لضروراتها الواقعية . ربما يعتقد أحدهم أن في هذا مبالغة ، خاصة في الدول الثيوقراطية أو شبه الثيوقراطية التي تشكلت بهويات دينية صارخة ، بحيث كان الدين كما يتراءى مُوجهاً للحراك على نحو واضح ومباشر . لكن ، ليس الأمر على هذا النحو ، فالعلاقة الجدلية هي ما حدث ويحدث . بل إنني أزعم أن تكييف الدين في هذه الدول الثيوقراطية أشد مما هو عليه في الدول ذات المنهج العلماني الصريح التي تدعي أن الدين خارج نطاق التأثير عليها . هذا هو الواقع ؛ وإلا فبماذا نُفسر إجازة فقهاء طالبان المتزمتين لزراعة المخدرات ؛ حتى أصبحت أفغانستان في عهدهم أكبر مصدر للأفيون في العالم . وإذا كان فقهاء طالبان يُجيزون زارعته ؛ بتبرير أن جزءا ضئيلا منه ( قد !) يُستخدم في تحضير بعض الأدوية ، فإن هذا التبرير هو شهادة إدانة لطالبان أكثر مما هو شهادة براءة لها ، إذ هو تشريع وتطبيع لأشد أنواع المسكرات خطراً في العالم . وما صنعته طالبان ، من توظيف الشريعة لإجازة الأفيون ؛ لأن فيه أكبر عائد اقتصادي لأفغانستان الطالبانية ، صنعت إيران ما يشابهه ، وذلك بتراخيها عن ضبط عمليات التهريب وعمليات التعاطي . فنسبة المُدمنين على المخدرات في إيران هي من أكبر نسب الإدمان في العالم ، رغم أن التشدد الديني فيها يصل حد التزمت المتطرف. الدين لدى طالبان وإيران يتشكل وفق مصلحة رجال السلطة ، لا كما يدعون أنهم يضعون السلطة في خدمة الدين . الخميني كان صريحا في هذا المجال ، ففي رسالته إلى رئيس الجمهورية في الثمانينيات ، يؤكد أن مبادئ السياسة مقدمة على مبادئ الدين ، وأن الاعتبار الأهم هو لمصلحة الدولة أو النظام الإسلامي ، كما يقول . إذن ، أبرز نقاط التشابه (والتي لها الأولوية ، ولهذا أذكرها قبل استعراض ما ذكره فهمي هويدي في هذا الشأن) هي ممارسة أقسى صور البطش السلطوي باسم الدين . الدين عند طالبان وعند رجال الثورة في إيران هو الحاضر دائما ، وهو الغائب دائما ! . هو الحاضر ؛ كمُبرّر للقمع والبطش والهيمنة على تفاصيل التفاصيل ، وهو الغائب عن أن يكون الشرعية الأولى للفعل قبل وجوده (الفعل) في الواقع . ليس الأمر مجرد خطأ في التفسير أو في التأويل فحسب ، وإنما هو توجيه متعمد ومقصود لهذا التأويل ، وتوظيف له ؛ ليكون محققا لرغبات وتطلعات رجال السلطة في الواقع . رجال الدين الذين تكوّن وعيهم على إيقاع معزوفة المحافظة والتقليد والجمود ، يُطوّعون المبادئ العليا للشريعة ؛ كي تخدم تسلطهم ، ولو بانتهاك هذه المبادئ في وضح النهار. وتزداد الأزمة ( الفكر واقعية ) احتداما ؛ عندما يكون هذا التأويل السلطوي موظفا لخدمة رُؤى انغلاقية متطرفة ، رؤى لا تؤدي إلى الاشتباك السلمي المتصالح مع ألوان التنوع المجتمعي ، سواء في الداخل أو الخارج ، بل تؤدي حتما إلى الصراع الدامي مع كل المختلفين . إنها رؤى مُوجّهة في الاتجاه السالب ، رؤى تقمع إمكانية الحياة وإمكانية التواصل مع عناصر الإحياء داخل المجتمع . وهذا ما يجعلها تأويلا لا يمارس تشويه الدين فحسب ، وإنما يمارس تشويه الواقع أيضا . إن هذا التشابه بين التجربتين لابد من وضعه في مقدمة الاهتمام النقدي . قد لا يكون هذا التشابه واضحا بما فيه الكفاية ، لكن لابد من الاشتغال على فحصه باستمرار ، إذ ليست نقاط التشابه الأخرى في تصوري إلا تفريعا عنه ، سواء على مستوى الفكر أو مستوى الواقع المتعين . أما نقاط التشابه الظاهرة والمباشرة ، التي لاحظها فهمي هويدي من خلال معاينته للواقع ، فيمكن عرضها اختصارا فيما يلي : 1 فكرة تولي السلطة لم تكن في حسبان الطرفين . فالخميني وأشياعه لم يكونوا يتوقعون أن ينهار نظام الشاه بهذه السهولة ، لم يتوقعوا أن يقوم أكبر جيش في الشرق الأوسط بتسليم أسلحته للثوار . لم يخططوا لأكثر من ضغط شعبي على نظام الشاه ؛ في سبيل تحقيق أكبر قدر من الإصلاحات الداخلية ، وأن يعاد تنظيم الممارسة الأمنية ؛ بحيث تُحاصر جميع التجاوزات التي تطال انتهاك حقوق الإنسان . لكن ، فجأة ، وفي تسلسل دراماتيكي ، انهار النظام من أساسه ، واستسلم أضخم جيش في الشرق الأوسط ، ووجد أصحاب العمائم أنفسهم فجأة في السلطة ، أو على نحو أدق في مواجهة لم يستعدوا لها مع مسؤولية السلطة التي لم يعرفوا عنها إلا أقل القليل . نفس الشيء حدث مع طالبان . فالطالبان كما في تصريح الملا محمد عمر نفسه كانوا مجموعة من طلبة المدارس الدينية ، أثارهم تنامي المنكرات ، وخاصة ما يتعلق منها بالأمن ، حيث كانت المليشيات وقطاع الطرق وتجار الحرب يمارسون النهب والسلب والاعتداء على الأعراض . فنهض طلاب المدارس الدينية لتطهير منطقة : قندهار من هذه . ولم يكن اهتمامهم يتجاوز حدود منطقتهم الخاصة . لكن ، وبمجرد نجاحهم في تحقيق الأمن في هذه المنطقة المفتقدة للأمن ، أُعجب الناس بهم ، خاصة وأن الناس لا يعرفون ماهية مشروعهم ؛ لأنه لم يكن لديهم أصلا أي مشروع للحكم ؛ لأن الحكم نفسه لم يخطر منهم على بال . إذن ، ونتيجة لهذا الإعجاب ، انخرط كثيرون في صفوفهم ، ووجدوا أنفسهم ينتقلون من قوة إلى قوة . وما هي إلا ثلاث أو أربع سنوات ، فإذا هم يسيطرون على 95% من مجمل أراضي أفغانستان . هذا ما حدث لكلا الدولتين المتطرفتين . لكن ، ماذا يعني أن تمسك بالسلطة جماعة لم تهيئ كوادرها لتولي السلطة ؟!. ماذا ستصنع سلطة لا خبرة لها بالسلطة ؟! . لا شك أن الفشل في هذه الحال سيكون محتوما ، خاصة عندما تكون الرؤية السابقة للجماعة ساذجة ، ومبنية على أبعاد محض تنظيرية ، وتكتمل حلقات الفشل ؛ عندما يكون التنظير متكئا على رؤى لا علاقة لها بالحاضر ولا بأيٍّ من قوانينه الحاكمة ، بل هي رؤى صادرة عن تصورات تكونت في ظلمات الماضي السحيق . إنك في مثل هذه الحال ، كمن يأتي بسائس بعير ، فيجلسه في قمرة قيادة طائرة بوينج ، ثم يطالبه بأن يقود الطائرة ، بل ويطالبه بأن يقودها في الاتجاه الصحيح . هنا ، من الطبيعي أن يعجز هذا البائس ، ولكن من غير الطبيعي أن يغالب هذا العجز ؛ فيحاول القيادة بآلية العبث الحر ! ، عبث لابد وأن يؤدي إلى كوارث لم تكن في الحسبان . ومغالبة العجز بآلية العبث هي بالضبط ما حدث في إيرانوأفغانستان ، فقد وقع الملالي على الكراسي بمعجزة ، والمعجزة لا تأتي إلا مرة واحدة ، وفي صورة خاطفة . ولهذا لم يجدوا معجزة أخرى تُلهمهم طوال طريق الجلوس على الكراسي ، لم يجدوا معجزة تنقذهم من قدر الفشل المحتوم ! .