علّمتنا أحكام ُ الشريعة الإسلامية ، ونصوص القرآن العظيم والسنة النبوية المطهرة ، وتجارب الزمان ومواعظه ، وأحداث ُ التاريخ ، ألا نغترّ بالدعاوى ولا تخدعنا الشعارات ، وأن التأويلات الفاسدة ، والتبريرات الزائفة ، هي أصل ُ كل ِ بلاء ٍ وأساس ُ كل ِ شر ٍّ وفتنة . ومن منطلق إيماننا وتمسكنا بديننا وعقيدة أهل السنة والجماعة ، نؤمن بأن الأمر يجب ُ أن يُرد ّ إلى أهله في العلم الشرعي وفي شؤون السياسة ، فليس كل ّ أحد ٍ مخولاً في الخوض في أمور الأمة والتقوّل ِ عليها والنيابة ِ عنها في تقرير ما يجب وما لا يجب . خاصة ً إذا كانت منطلقاته مفضوحة ً ومقاصده غير خافية وهذه الدعاوى والتأويلات الفاسدة قد يقترن فسادها مع فساد نوايا أصحابها ، فيظهرون ما لا يبطنون ، ويُعلنون ما لا يُسِرّون ، ويقولون ما لا يعتقدون ، للوصول إلى مقاصدَ غير ما ادعّوا به . وقد يكون بعض ُ أصحاب هذه التأويلات والشعارات الفاسدة مُغرّراً بهم ، مخدوعين ، يريدون الخير لكنهم لم يوفقوا إليه ، والنوايا الحسنة وحدها لا تكفي . لذا فإنه ينالهم من اللوم والإثم ، والعقوبة بقدر ما ترتب على فعلهم القبيح من ضرر ، إما على الدين أو على الدنيا . ونصوص القرآن مليئة ٌ بالأمثلة على هذه المسألة لا مجال لحصرها ، فمن أمثلة أصحاب الدعاوى الكاذبة المقرونة بالنوايا السيئة ما حكاه الله عن المنافقين في أكثر من موضع من دعوى الإصلاح مثل قوله تعالى:(فكيف إذا أصابتهم مصيبة ٌ بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا..) وقوله سبحانه : (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مُصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) . ومن أمثلة النوع الثاني : أن الله نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين والمنافقين في أقوالهم وأفعالهم وعباراتهم وشعاراتهم ، حتى لو كانت نيّة ُ المؤمنين لا تريد إلا الخير ، قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظُرنا واسمعوا وللكافرين عذاب ٌ أليم). وقد أخبر الله عز وجل عن وجوه ٍ خاشعة ٍ عاملة ٍ ناصبة ٍ تصلى يوم القيامة ناراً حامية لأن هذا الخشوع والعمل الطويل لم يكن وفق ما شرعه الله عز وجل . بل حتى عبادة الأصنام لم تحصل من أصحابها إلا بسبب تأويلات ٍ فاسدة وحجج ٍ شيطانية (.. ما نعبدهم إلا ليقرّبونا إلى الله زُلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه مختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب ٌ كفّار) . إذاً فإنه لابد من وجود معيار ٍ واضح ٍ محدد ، وقاعدة ٍ يُحتكم ُ إليها عن الاختلاف والخلاف ، يمكن من خلالها التفريق بين الحق والباطل ، والإصلاح والإفساد . وهذه القاعدة ُ معلومة ٌ في ديننا ، بل هي دينُنا الذي بعث َ الله به نبينا صلى الله عليه وسلم . فلا صلاح ولا إصلاح إلا فيما وافقه . فلا ينبغي لأي أحد ٍ أن يركن إلى عقله وهواه بمعزل ٍ عن قواعد الشريعة وأحكامها ونصوصها ، فإن كان حسن النية لم ينفعه حُسن ُ نيته ، وإن كان سيئ النية ِ فإن الله سيفضحه ويبطل كيده . وإن مما دعاني إلى تأكيد هذه القاعدة والتنويه عليها ما تناقلته بعض ُ وسائل الإعلام من بيان ٍ منسوب ٍ إلى مجموعة ٍ وصفوا أنفسهم بالإصلاحيين والناشطين الحقوقيين ، خلطوا فيه حقاً قليلاً بباطل ٍ كثير ، ووضعوا مقدمات ٍ بعضها صحيح ليتوصلوا بها إلى نتائج فاسدة . وقبل الخوض في هذا البيان وما اشتمل عليه أؤكد أنه غاب عن أذهان كُتّاب ِهذا البيان أن هذه الدولة السعودية إنما قامت على أساس تحكيم كتاب الله عز وجل وسنة رسوله ، وأنها منذ مراحلها الأولى ملتزمة ٌ بأصول أهل السنة والجماعة، وأنها استمرت وتمسكت بهذا المنهج وحافظت ْ عليه عبر مراحلها الثلاث ، في كل ِ مرة ٍ تضعف وتسقط تعود لتقوم أقوى مما كانت، ليس على ظهر دبابة ٍ، ولا ببندقية جيش ٍ خارجي ودعم ٍ مشبوه ، وإنما كانت كل َّ مرة ٍ تقوم على سيوف وبنادق وسواعد أبناء هذه البلاد من آبائنا وأجدادنا الذين آمنوا بهذه الدولة وامتلأوا يقيناً أنه ما صلح حالهم ولا استقر أمنهم، ولا توحد صفهم إلا حين قامت فيهم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فذابت أمام هذه الوحدة فوارق القبيلة والمنطقة والعرق واللون والحسب والنسب . وحافظت المملكة على هذا الأساس ، وتمسكت بهذه الصبغة ، في أصعب الأوقات وأشد الظروف ، شرّقت البلاد ُ من حولها وغرّبت ، ما بين قومية ٍ عربية ، إلى ماركسية ٍ وشيوعية ، إلى ديمقراطية ٍ تجعل الحُكم َ للشعوب لا لله ورسوله . ولأنه ما تزال هذه الدولة قائمة ً بأمر الله ، مُحكّمة ً لشرع الله ، رافعة ً للواء أهل السنة والجماعة ، حامية ً لهذه العقيدة ، مانحة ً شعبها الأمن والوحدة والاستقرار ، فإن من واجب كل ّ مسلم ٍ صادق ٍ محب ٍّ لدينه بل ولنفسه وولده وأهله ، أن يعرِف قدر َ هذه النعمة ويحافظ عليها ، وأن يكون جامعاً للشمل موحداً للصف ، مُصلحاً الإصلاح الحقيقي الذي تحكمه ضوابط الشرع ، حسب موقعه من المسؤولية ولو حتى في أهل بيته وحفظ أولاده وحسن تربيتهم . كما أن أي عاقل ٍ مدرك ٍ ثاقب النظر لايمكن أن تخفى عليه الظروف التي تشهدها المنطقة والعالم من اهتزازات ٍ سياسية ، وتقلبات ٍ اقتصادية ، فحكومات ٌ يُسقطها التسلط والظلم ، وأخرى يطيح بها الاقتصاد المُنهار ُ والوضع المالي المتردي ، ونحن بفضل الله سبحانه واقفون في وسط هذه العواصف ، صامدون بأمننا وسياستنا الشامخة الراسخة ، واقتصادنا الذي يشهد ُ أفضل مراحله وأحسن حالاته نمواً وازدهارا . إن ما نعيشه من نعم ٍ ومكتسبات ٍ عظيمة ، وما أنعم الله به علينا من وحدة ٍ واجتماع كلمة ، يجعلنا ننبذ ُونُبغض كل من خرج عليها أو حاول المساس بها ، مهما كانت حجّته وأياً كانت حاجته . ومن منطلق إيماننا وتمسكنا بديننا وعقيدة أهل السنة والجماعة ، نؤمن بأن الأمر يجب ُ أن يُرد ّ إلى أهله في العلم الشرعي وفي شؤون السياسة ، فليس كل ّ أحد ٍ مخولاً في الخوض في أمور الأمة والتقوّل ِ عليها والنيابة ِ عنها في تقرير ما يجب وما لا يجب . خاصة ً إذا كانت منطلقاته مفضوحة ً ومقاصده غير خافية ، وانتماؤه الحقيقي لفكر ٍ منحرف أو مذهب ٍ ضال ٍ هو الذي يُسّيره ويقوده . ثم إن من مبادئنا التي نحتكم إليها أننا نعرف ُ الرجال َ ونزنهم بالحق وليس العكس ، فنحن لا نقبل القول ولا نُصدق الكلام لمجرد أن قائله صالح ٌ فاضل ، ولا نرده ونرفضه لأن قائله فاسد ٌ ضال ، حتى نعرض كل ّ ذلك على أحكام ديننا فنقبل ُ ما قبله الدين ونرفض ما رفضه الدين . ولا نتردد أبداً في الإنكار على القول الفاسد أياً كان قائله . وإن البيان الذي أصدره هؤلاء ونصبوا أنفسهم فيه للحكم في السياسة والقضاء والشريعة والأمن ، ليس إلا دعوة ً مشبوهة ً لشق الصف وترك الأمور فوضى ، ومواطأة ً غير مقبولة ٍ لفئتين ارتكبت كل ٌّ منهما فعلاَ شنيعاً ظاهره مثل باطنه قبحاً وفسادا . لكن المفارقة الغريبة تكمن في التواطؤ المشبوه، والخلط المثير للتساؤلات، بين القضيتين اللتين لا رابط بينهما إلا نية الإفساد وزعزعة الأمن والاستقرار لهذه الدولة. ولو أن موقعي هذا البيان ألقوا نظرة ً خاطفة ً على تعليقات المواطنين التي امتلأت بها المواقع الإلكترونية للصحف على أخبار أحداث القطيف أو محاكمة خلية جدة ، لعرفوا أنهم في بيانهم هذا كالمغرّد خارج السرب ، وأنهم فيه تجافوا عن صوت اللحمة الوطنية وخرجوا على الإجماع الوطني ، وأن النسبة الغالبة من المواطنين الصادقين المحبين لوطنهم يرفضون تماماً أي محاولة ٍ لزعزعة الأمن والافتئات على ولي الأمر والجهات المختصة ، التي نثق ُ في ظلها أننا في أيد ٍ أمينة . فبالأمس ِ امتطى فهد بن عبدالعزيز "رحمه الله" حصان العزم والهمة، وأظهر خصائص الحنكة والحكمة، وكشف عن مكنونات حبه لوطنه ومواطنيه، ووقف في وجه الاعتداء العراقي على المملكة حتى أتت كل جيوش العالم للدفاع عنها، حتى انتهت الحربُ وانتصرت القضية ُ دون تعريض الدم السعودي والعرضِ والأرض لأي ضرر ٍ أو انتقاص. وها هو اليوم خادم الحرمين الشريفين " أيده الله " يعضده ولي عهده فارس الأمن " حفظه الله " يعلنانها حرباً على الإرهاب والفساد بكل صورهما ، ويجندان كافة الطاقات ويجمعان الصفوف لدحرها ، وكل ّ مواطن ٍ غيور ٍ صادق ، يقف ُ معهما جندياً في هذا الجيش . هل يعلم ُ موقعوا هذا البيان أن التاريخ الإسلامي سجّل لنا ما تعرّض له أئمة أهل السنة والجماعة من تعذيب ٍ وسجن ٍ وجلد ؟ فأحمد ُ بن حنبل "رحمه الله " سُجن َوجُلد َ على أن يقول كلمة ً من قالها كفر ، حتى إنه حين خرج من السجن لم يستطع الاستواء على ظهر الدابة ، وغيره من السلف الصالح الكثير كأمثال شيخ الإسلام ابن تيمية " رحمه الله " وقبله أبو حنيفة وكثيرون كلهم تعرضوا لهذا التعذيب والإيذاء بل والقتل ؛ فهل أفتى هؤلاء العلماء ِ المُعذّبون الصابرون بالخروج في مسيرات تظاهر ٍ (سلمي ٍ مزعوم) أم أنهم كانوا يعتقدون ما اعتقده الصحابة قبلهم وما دعاهم إليه ربهم ونبيهم صلى الله عليه وسلم من السمع والطاعة والحذر من شق عصا الجماعة وإيقاد نار الفتنة ؟ فأي دين ٍ يزعم ُ هؤلاء في بيانهم أنه يكفل (حق التظاهر السلمي) ؟. ثم هل تعرّض ولاة أمر هذه البلاد لأحد ٍ من العلماء بسجن ٍ أو جلد ٍ أو تعذيب ؟ بل هل تعرضوا بأي قتل ٍ حتى لمن خالف الجماعة وشق عصا الطاعة إلا في حالتين : (حالة الاعتداء والصائل لدفع شره ، وحالة تنفيذ حكم القضاء في المفسد المريق للدماء المعصومة). وهل يقارن ُ هؤلاء ما تتخذه القيادة السعودية من إجراءات ٍ لحفظ أمن الوطن ومن يقيم على أرضه ، وردع كل معتد ٍ عليه ، بما قامت به بعض الدول (وأولها إيران) التي يستقي منها بعض ُ هؤلاء المفسدين شعاراتهم ، ويدورون في فلكها ، وينفذون أجندتها بقصد ٍ منهم أو بجهل ، فماذا فعلت ْ في من خرج من مواطنيها مطالبين بالإصلاح من سحق ٍ وقتل ٍ بل حتى (اغتصابات في السجون ) . إن التشكيك في الارتباط الواضح بين الحركة المتمردة في القطيف، وبين القوى الخارجية في إيران ليس إلا تعمداً للتضليل من بعض الموقعين على البيان ، ونقص عقل ٍ عند بعضهم ، فهو وإن كانت دلائله القاطعة أكثر من أن تُسرد ليس حكراً على حكومة المملكة ، بل هو أمر ٌ ظاهر ٌ ثابت ٌ لدى حكومات المنطقة والعالم التي لم يعد يخفى عليها هذه الحقيقة . كما أن الزعم السمج بسلمية وبراءة أعمال العنف في القطيف ليس إلا استخفافاً بعقول الناس الذين شهدوا وشاهدوا وسمعوا وأبصروا ما قام به هؤلاء المفسدون من أعمال ٍ إجرامية ٍ إفسادية ٍ أجمع المواطنون الشرفاء حتى من أبناء الطائفة الشيعية على استنكارها والبراءة منها ، وطالب كل ُ خائف ٍ على مستقبل وطنه وأولاده بأن يوقع بهم أشد أنواع العقاب، وأن يُجعلوا عبرة ً لمن تسول له نفسه المساس بهذا الخط الأحمر . لكن الجهات الأمنية مع ذلك لم تستجب لعواطف الناس وحماسهم ، إنما التزمت بأقصى درجات الحكمة والتعقل وتقدير عواقب الأمور ، وحاولت نزع الفتيل دون تفجيره ، ولم تسمح بتأجيج نار التعصب المذهبي واللعب على هذا الوتر الذي لم يتورع موقعو البيان عن اللعب به . ومن مغالطات هذا البيان استباقه للأحداث في اتهام الأحكام القضائية واستقلال القضاء من خلال حكم ٍ ما يزال ابتدائياً لم يعرض على محكمة الاستئناف بعد ، متناسين أنه لو كان لدى الحكومة السعودية أي نية ٍ للتدخل في القضاء لما أعلنت تفاصيل المحاكمة التي قرأها كل ّ حقوقيي العالم ، ولما نقلت وسائل الإعلام السعودية بتفاصيل دقيقة ٍ مجريات المحاكمة حتى نقلت من المشاهدات والأقوال ما لم يدون في محاضر الجلسة ولم يُضبط مما قيل من كلام ٍ عابر في أدق التفاصيل . لكن التعاطف مع مجموعة ٍ افتأتت على ولي الأمر ، وثبت أن لها ارتباطاتٍ خارجية ، واتصالات ٍمعها بما يخالف مصلحة البلاد وسياستها التي تهدف لحماية أمنها واستقرارها ومصالح شعبها ، وتلتزم بعدم التدخل في شؤون غيرها من الدول إلا بالخير ، وتحافظ على عدم الزج بشباب الوطن ولا أمواله في مواطن الفتنة والنزاعات الفوضوية ، كل ذلك من المخالفات أمر ٌ لايمكن التعاطف مع مرتكبيه ، ولا القبول به أو السكوت عنه ، وولي الأمر أثبت عبر الأحداث والتجارب أنه أعدل وأرحم بأبناء شعبه من أي منظمة حقوقية ٍ أو مجموعة ٍ مدعية ٍ للإصلاح لم توفق إليه. فكم عفا ولاة الأمر عن الخارجين عن الطاعة المحدثين في الأرض ؟ منذ عهد الملك المؤسس وإلى اليوم وولاة أمرنا يُقدمون العفو على العقوبة ، والرحمة على القسوة ، والحوار على الحرب . لكن َ وضع الندى في موضع السيف مضر ٌ كما قال الأول . وخلاصة القول : إننا نؤمن أن ما أجمع عليه ولاة ُ أمرنا مع علمائنا الربانيين الناصحين الذين لم يكن لهم يوماً أي تطلعات ٍ سياسية ، ولا أهداف ٍ غير شرعية ، أن ذلك هو صلاحنا وإصلاحنا الحقيقي. والحمد لله أولاً وآخراً هو سبحانه حسبنا ونعم الوكيل. *القاضي السابق في ديوان المظالم والمحامي حالياً