الذهب يعيش هذه الأيام أوقاته الذهبية، فسعر أونصة الذهب التي كانت عام 1973 تساوي 42 دولارا أصبحت اليوم تباع ب1180 دولاراً، ورغم ذلك فإن حمى الشراء على الذهب في تزايد مستمر، فما هو سبب فقدان الذهب لمرونة الطلب، فهو ليس مثل النفط سلعة لا غنى عنها لدوران دولاب الاقتصاد في العالم حتى لا يتأثر الطلب عليه بارتفاع أسعاره. والأمر لا يقتصر على البلدان التي باعها صندوق النقد الدولي، في الآونة الأخيرة، 403.3 أطنان من الذهب. فالمستثمرون وأصحاب الأعمال صاروا أيضاً من شراء الذهب بكميات كبيرة. ومستثمرونا ليس بمعزل عن غيرهم. فقد اشترى المستثمرون السعوديون خلال الشهرين الماضيين ونيف كميات كبيرة من الذهب بلغت 170 طناً وبقيمة تصل إلى 22.5 مليار ريال. أي تقل قليلاً عن الكمية التي اشترتها الهند والتي وصلت إلى 200 طن من الذهب. فما الذي يدفع الطلب إلى هذه المستويات رغم ارتفاع أسعار الذهب وتكاليف تخزينه. فالبنوك المتخصصة بحفظ الذهب لا تودعه لديها مجاناً وإنما مقابل مبلغ معين. ولكن عن أي مرونة نتكلم في وقت يعاني العالم فيه من عدم الاستقرار الاقتصادي من ناحية وضعف الثقة بالعملات الورقية من ناحية ثانية، فالعالم على أبواب مرحلة انتقالية، فميزان القوة الاقتصادية يميل باتجاه آسيا تدريجياً، حيث تتربع الصين على رأس البلدان الآسيوية التي سوف يرجح ثقلها ميلان كفة ذلك الميزان باتجاه الشرق. من ناحية أخرى فإن هذا الوزن الاقتصادي لآسيا لم يترجم بعد إلى وزن لعملاتها في التداول الدولي. فالدولار لا يزال هو العملة الرئيسية التي تجري بها عمليات المحاسبة بين آسيا وبقية أنحاء العالم. إذاً فنحن أمام وضع اقتصادي ومالي غير مستقر من عدة نواحٍ، فالنظام المالي العالمي لأول مرة أصبح لا يعكس بالتمام الوزن الاقتصادي لبلدان العالم. من ناحية أخرى فإن أحداً لا يعرف كيف ستخرج القوى الاقتصادية الرئيسية في العالم من هذه الأزمة. فالولاياتالمتحدة التي أصابها الكساد العظيم عام 1929، قد خرجت منه، بعد الحرب العالمية الثانية، كأكبر قوة اقتصادية على هذه المعمورة. فهل يتكرر ذلك السيناريو مرة أخرى؟ كل الدلائل تشير إلى صعوبة تحقق ذلك هذه المرة. فأمريكا تستنزف قوتها وتضعضعها الحرب في أفغانستان التي لن تخرج منها الولاياتالمتحدة منتصرة بكل تأكيد. فأفغانستان كانت على الدوام مستنقعا مهلكا لكل الإمبراطوريات التي غاصت في أوحاله. كما أن عدم استقرار الأوضاع في العراق يكلف دافع الضرائب الأمريكي والخزينة الاتحادية أموالا طائلة منذ عام 2003 وحتى الآن. وهكذا فنحن أمام مشهد غير واضحة معالمه، خصوصاً في ظل الأعباء الاقتصادية التي تنوء بها صاحبة العملة الرئيسية في العالم. الأمر الذي ينعكس على القوة الشرائية لتلك العملة. فكلما تباطأ نمو الاقتصاد الأمريكي وانخفض الغطاء السلعي والخدمي للعملة الخضراء كلما ارتفعت أسعار جميع السلع والخدمات المقيمة بالدولار في العالم. وهذا من شأنه أن يصيب المستثمرين في العالم بالذعر، وبالتحديد قطاع الأعمال في المناطق المحسوبة على الدولار مثل الصين ومنطقة الخليج، فالأصول المقيمة بالدولار التي بحوزة المستثمرين والدول هناك تتعرض لتآكل قيمتها جراء انخفاض سعر صرف العملة الأمريكية وتراجع قيمتها الشرائية. ولذلك نرى البنوك المركزية في العديد من البلدان، الواقعة في المنطقة المشار إليها، تقوم بالبيع التدريجي لمخزونها من الدولارات وشراء الذهب أو عملات أخرى بهدف تنويع احتياطاتها من النقد، والذهب يأتي على رأس تلك المشتريات وذلك لأن الذهب هو النقد الحقيقي، فكما يقول ناثان لويس مؤلف كتاب "الذهب" فإن المعدن الأصفر قد حافظ خلال القرون السبعة الأخيرة على قيمته الشرائية وذلك بخلاف النقود الورقية التي تعتمد قوتها الشرائية على قوة اقتصاد البلد الذي يصدرها- وذلك لأنها مغطية باقتصاده- فإذا نما الناتج المحلي الإجمالي وزادت صادرات ذلك البلد تعززت قيمة تلك العملة وإذا تراجع الإنتاج وقل حجم الصادرات تراجعت قيمتها. من هنا وفي ظل توجه القوى الاقتصادية العالمية الجديدة في آسيا وغيرها للعب دور مالي يتناسب مع حجم قوتها الاقتصادية فإن الثقة بالعملة الخضراء تتزعزع، ولذلك فإن العالم في ظل هذه الظروف الصعبة يقبل على شراء الذهب باعتباره الملاذ الأخير لحفظ ثروته وبغض النظر عن ارتفاع أو انخفاض سعر ذلك المعدن الأصفر الجميل البراق.